عناصر الخطبة
1/ما من الله به من الأمن بعد الخوف 2/نعمة كثرة الأرزاق وتنوعها 3/ما يسر الله من الاجتماع بعد الفرقة 4/من دلالات ذكرى توحد البلاداقتباس
إن أصدق الناس وطنية أصدقهم تدينا؛ فالمتدين الحق يبني ولاءه لدينه ووطنه وولاته ومجتمعه، على أسس عقدية ثابتة لا تغيرها المصالح، ولا تبدلها الأهواء، إنهم ليسوا بأصحاب مصالح إذا أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله مسبغ النعم، ومحيي الرمم، وموجد الناس من عدم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرأفُ من ملك وأعدل من حكم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الورى وقدوة الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة القمم، وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله -يا مسلمون-؛ فمن اتقى الله وقاه، ورزقه وكفاه، وبتقوى الله صلاح الحال والمآل، والعاجل والآجل، والحاضر والمستقبل، واشكروا نعم ربكم، بلدة طيبة ورب غفور.
حقائق القرآن تخبرنا وتذكرنا وتنذرنا، فاستمعوا بها وأنصتوا لعلكم ترحمون:
أولاها: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3، 4]، إنها أعظم منة أن تبيت آمنا في بيتك عندك قوت، يومك فبذلك حزت الدنيا بحذافيرها، اسأل الآباء والأجداد عن زمانهم، واسأل التاريخ عن أجيال مضت، فسيأتيك الجواب: إن أجيالا عاشوا زمنا كانوا فيه خائفين، لا يأمن الإنسان على نفسه، ولا على ماله، ولا على عرضه، ولو كان في قعر بيته.
سيحدثونك عن زمن جوع ومسغبة، أكل الناس فيه الميتة والجيف، وهمّ بعضهم بأكل بعض، سيأتيك الجواب عن زمن كانت فيه البلاد صحراء قاحلة، وأهلها يشدون الرحال ويغيبون السنوات الطوال؛ ليبحثوا عن لقمة عيش تسد الرمق، وتخفف من القلق.
سينبئونك عن زمن كثرت فيه الأوبئة والأدواء، حتى خلت بيوت من أهلها، لا يجدون من يداويهم أو يؤويهم، سيحدثونك عن رحلات للحج مخوفة، الذاهب فيها مفقود، والعائد مولود؛ لكثرة قطاع الطرق والمتربصين.
وثانيها: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67]، إن من حولك وغيرهم في خريطة هذا العالم يتخطفهم قتل وخوف، ويعيشون في قلق ورعب وعنف، وأنت تتقلب في بلد آمن، وعيش رغيد، فهل أنتم شاكرون؟.
وثالثها: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57]، فهل تفكرت وأنت تدخل الأسواق، لترى كيف هي نعمة الله علينا بأرزاق تأتينا رغدا من كل مكان؟! فنتمتع بها في أجواء آمنة، حتى من كثرة النعم سئم فئة من الناس نعم الله، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وطلبوا من نبات الأرض بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، بعد أن سئموا من المن والسلوى، وحتى مل الناس من بيوتهم الفسيحة بأثاثها الجميل؛ ليتزاحموا في مقاهٍ وكافيهات في زاوية ضيقة؛ ليأكلوا قطعة خبز وقهوة سوداء.
ورابعها: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آل عمران: 103]، إنها حقيقة عنوانها (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)[الأنفال: 63].
اسأل التأريخ وسوف يخبرك عن زمن صار في كل بلدة أمير للمؤمنين ومنبر، يصبحون على حاكم ويمسون على آخر، في مشاهد دامية، وصراعات قبلية، وتنافسات فوضوية، ثم أذن الله لهذه الأرض المباركة فتوحد شملها، واجتمعت كلمتها، وتبدل الخوف أمنا، والوباء عافية، والفقر غنى، والجفاف رخاء، والتشتت اجتماعا، والاختلاف تآلفا، والنزاع تلاحما، الدولة واحدة وقيادتها واحدة، دينها واحد، ومنهجها واحد، بلدة طيبة ورب غفور.
إن البلاد وأهلها وهم يتذكرون يوم توحد بلادهم واجتماع كلمتهم، أن الله ابتلاهم بالسراء بعد الضراء؛ ليبلوهم أيشكرون أم يكفرون؟ (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)[النمل: 40]، إنها تذكرة بنعمة الأمن والرخاء؛ "فمن أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، ووالله لساعة بلا أمن كفيلة بهدم سنين من الأمن والرخاء.
إن يوم توحيد البلاد رسالة لأهلها تذكرهم ما كانت بلادنا عليه ثم ما آلت إليه؛ لنتبع التذكر بالحمد والشكر قولا وفعلا لله الخالق، حيث كنا عالة فأغنانا الله، ومشردين فآوانا الله، وجياعا فأطعمنا الله، وخائفين فأمننا الله، وأذلة فأعزنا الله، ومتفرقين فجمعنا الله.
نعم -يا مسلمون- من نحن إن لم ينعم الرحمن علينا بالأمن والعافية، ورغد العيش، وتآلف القلوب؛ (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)[النور: 21]، إننا -بحمد الله- في بلادنا ننعم بكثير من وسائل اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فلدينا عقيدة تحدد علاقة الراعي بالرعية، ولدينا مبادئ ومثل وقيم، تنظم سير حياتنا، وتلزمنا بحقوق نحو الوطن وولاته وساكنيه، فإذا أردنا أن ينمو الولاء، ويتجدد الحب للوطن، ويتحقق الحفاظ على مكتسباته ومقدراته؛ فلنعمل على بناء الإنسان المسلم الصالح عقيدة وسلوكا.
إن أصدق الناس وطنية أصدقهم تدينا؛ فالمتدين الحق يبني ولاءه لدينه ووطنه وولاته ومجتمعه، على أسس عقدية ثابتة لا تغيرها المصالح، ولا تبدلها الأهواء، إنهم ليسوا بأصحاب مصالح إذا أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.
إن هذا الوطن سفينة، وحكامه ربانها، والناس ركابها، وإن الحب الحقيقي لهذا الوطن يكون بالحفاظ على هذه السفينة، وحمايتها من العابثين، الذين يريدون خرقها؛ ليغرقوا أهلها بطوفان الفساد والمنكرات التي لا ينتج عنها إلا جيل هزيل، غارق في الشهوات لا يحمي بلدا، ولا يدافع عن حمى؛ "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهُوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَّنَ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ"، نعوذ بالله من زوال نعمته، وفجاءة نقمته، وتحول عافيته، وجميع سخطه.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ورابع الحقائق: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، إن مما ننعم به من أمن في الوطن، ورغد في العيش، وتلاحم بين الراعي والراعي، وتآلف بين أفراد المجتمع؛ إنما هي نعم من الله وفضل، ليبلونا أنشكر أم نكفر؟.
اعلموا وعلموا وربوا أجيالكم أن هذه النعم نستبقيها بالشكر لله، والاستقامة على شريعة الله، وتنفيذ حدوده، والاعتزاز بعقيدة التوحيد ومناصرتها، والدعوة إليها، ومحاربة البدع بكل مسمياتها، والمحافظة على أسبابها من السمع والطاعة لله، ثم لولاة أمركم، والسير خلف ركب الجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، والبعد عن معصية الله، واجتناب المنكرات وهجر مواقعها، والنأي بالأهل والذرية عن معاطنها، فالمؤمنون حقا إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه؛ (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان: 72].
اعلموا وعلموا أن كفران هذه النعمة بالفسوق والعصيان، والتجرؤ على حدود الله ومحارمه مؤذن بزوالها، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
علموا ناشئتكم المعنى الحقيقي للمواطنة، وربوهم على البعد عن الدعايات المضللة التي تريد أن تسوقهم إلى الفتن، وتجرهم إلى خراب البلاد وفساد العباد، وعندما تستقيم النفوس على طاعة الله -سبحانه-، ويعرف كل إنسان حقوقه وواجباته، وتعمر قلوب المؤمنين المحبة الله ورسوله، والشفقة على العباد، ويسود التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع، فما أسعد هذا المجتمع وأهنأه!.
حينما نصدق مع الله يصدقنا الله، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)[التوبة: 111]، وحينما نحقق شرط الله يتحقق موعوده؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55]
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم