اقتباس
يا بني: استفد من خطب غيرك، بشرط: ألا تجعل كل مصادرك في تحضير خطبتك هي خطب الآخرين وحسب، بل اقترب من القرآن الكريم، وغُص في كتب السنة، ثم انتقل إلى كتب الأقدمين ثم المحدثين.. فإن فعلتَ كنتَ...
طال وقوف الشيخ مسعود أمام غرفة الخطيب، فعاود الطرق برفق على بابها، وعندها استمع إلى صوته يقول: "تفضل بالدخول"، فدخل الشيخ مسعود وهو يُسِرُ داعيًا: "اللهم اجعل نيتي خالصة لوجهك الكريم، وافتح لي مغاليق قلبه وعقله"... فرحب به الخطيب، وعاجله قائلًا: هات ما عندك، ألك سؤال شرعي جئت تطلب فيه فتوى؟ وعندها انتهزها الشيخ مسعود فرصة فقال: "نعم، عندي سؤال"، فقال الخطيب: هاته.. فقال الشيخ مسعود: "ما تقول في رجل عامي يرتدي ثوب طبيب، هل يصبح طبيبًا؟!".. فقال الخطيب: لا أفهم سؤالك؟! فقال الشيخ مسعود: "أسألك: لو أن رجلًا عاديًا ارتدى ملابس فارس مغوار، فهل يصبح فارسًا؟!"، ظهر العجب على وجه الخطيب وهو يقول: ما زلت لا أفهم ماذا تقصد بسؤالك؟ فقال الشيخ مسعود: "سؤالي يقول: إن كنتُ لا أجيد السباحة، فلبست رداء الغوص ثم قفزت في البحر، فهل ينقذني الرداء من الغرق؟!"، اقترب الخطيب من الغضب فقال بأسلوب به بعض الحدة: ماذا تريد؟ ما هو سؤالك؟ فقال الشيخ مسعود في هدوء:
"أخي الخطيب: كن نفسك، ولا تكن غيرك... فإنك إن قلدت غيرك صرت تبعًا، صرت كفيفًا لا تهتدي إلا أن تُهدى، أو أعرجًا لا تستطيع المشي إلا أن يحملوك!".
ثم أسرع الشيخ مسعود واقفًا ومسَلِّمًا ومغادرًا... وتاركًا الخطيب واقعًا في حيرة كبيرة؛ ماذا يقصد الشيخ وما يريد مني؟! ثم قام واقفًا وهو يخاطب نفسه: "سألحق به وأستوضحه"، وهرع إلى باب الغرفة الذي أغلقه الشيخ مسعود خلفه، ففتحه، وما أن فتحه إلا ووجد جيران الشيخ مسعود قد التفوا حوله وهم يقولون: "يا شيخ مسعود، أين كنت؟ وأين ذهبت؟ لقد كنا نبحث عنك!"، يقولون ذلك وهم يعاونونه ليخرج من المسجد، فلما رأى الخطيب ذلك استحى أن يكلمه وسطهم، وعاد إلى حجرته متفكرًا ومكررًا كلمات الشيخ مسعود التي ألقاها ثم ولى:
"أخي الخطيب: كن نفسك، ولا تكن غيرك؛ فإنك إن قلدت غيرك صرت تبعًا، صرت كفيفًا تحتاج إلى من يقودك، أو أعرجًا تحتاج إلى من يسندك!".
وعندها أدرك الخطيب مقصد الشيخ مسعود قائلًا لنفسه: إنه يعيب عليَّ أني أقلد غيري من الخطباء، ولكن هل في هذا ضير؛ فهم خطباء ناجحون ومشهورون وموفقون، وأنا أقلدهم حتى أكون ناجحًا مشهورًا مثلهم!...
استغرق الخطيب في تفكير عميق، يُخطِّئ نفسه مرة ويُصوِّبها أخرى، حتى هداه الله -تعالى- إلى طريق الخلاص من حيرته متمتمًا: لن أخرج من هذا المسجد الآن حتى أدخل مكتبة المسجد العامرة بالكتب فأنظر ماذا قال العلماء عن التقليد... ولم تمر إلا دقيقة واحدة إلا وكان الخطيب داخل المكتبة مقلِّبًا في مجلداتها يبحث عن ضالته.
فكان أول ما فتحه هو كتاب: "إعلام الموقعين" لابن القيم، فوجده يقول: "ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم"([1])، فقال الخطيب لنفسه: إنني لم أدعي أني من العلماء، وكلامه هذا في غير ما أبحث عنه، وانطلق يبحث عن كتاب آخر.
ومع هذا فقد فتح ورقات كانت معه وكتب فيها: "أضرار التقليد وآفاته... الآفة الأولى: أن المقلد خارج من دائرة العلماء"، ثم كتب بجانب ذلك: قال ابن القيم: "أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم"([2])".
وكان ثاني الكتب الذي وقعت بين يديه كتاب "الإحياء" للغزالي والذي قرأ فيه قوله: "ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولًا"([3])، وعندها صارح نفسه قائلًا: وكيف لي أن أتعظ، وكل همي أن أحفظ خطبة غيري ثم أسردها كما هي محاكيًا إياه ما استطعت! فكيف لي بعد ذلك أن أكون مؤثرًا أو متأثرًا؟! وانطلق يخط في وريقاته كاتبًا:
"الآفة الثانية من آفات التقليد: المقلد لا يؤثر في غيره؛ لأنه غير متأثر من داخله، فكلامه لا يدخل إلى القلوب؛ لأنه لا ينبع من ذاته ولا من وجدانه، والقاعدة تقول: "لا يؤثر إلا المتأثر"، ثم زاد قائلًا: يقول مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا"([4])، وعلَّق بعدها قائلًا: "وكيف يعمل الخطيب المقلد بما يقول وإنما كل همه أن يحفظ ثم يسرد؟!".
أما ثالث الكتب التي طالعها فكان: "المحلى" لابن حزم، وقرأ فيه هذه الكلمات: "والمجتهد المخطئ أفضل عند الله -تعالى- من المقلد المصيب"([5])".
وسارع هذه المرة إلى ورقاته فكتب فيها: "الآفة الثالثة: تقليد الخطيب واستنساخه لخطب غيره يحرمه من التعلم بالتجربة، مما يجعله تابعًا جامدًا محصورًا في قالب واحد لا يجاوزه، وعمله هذا في أفضل أحواله: مفضول مرجوح وخلاف الأولى".
وعند هذا القدر قال الخطيب لنفسه: كفانا من كتب القدامى، وهلما إلى كتب المعاصرين ننظر ما قالوا عن آفات التقليد في الخطابة، فإذا به يقرأ لبعضهم: "ينبغي للخطيب المتطلع للنبوغ والإبداع أن يعرف مواهبه الخاصة، ويحسن صقلها وتنميتها، ويستقل بالابتكار والاختيار والأسلوب والإلقاء؛ لأن المداومة على التقليد والمحاكاة وإطالة الاقتباس لا تنتج خطيبًا متميزًا ذا خطب مثالية"([6]).
وهذه المرة كتب في ورقاته: "الآفة الرابعة من آفات التقليد: التقليد يُفقد الخطيب الابداع والابتكار، ويُميت فيه الروح الخطابية، ويجعله مسخًا مشوهًا ونسخة سمجة من غيره، ويوقعه في مخاطبة الناس بما لا يناسبهم؛ إذ أنه يحفظ ليسرد بلا تعقل، فينقطع عن جمهوره، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله"([7])، ويترتب على ذلك فتنة لبعض المستمعين؛ يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"([8]).
***
استغرق الخطيب في بحثه زمنًا طويلًا؛ يطالع الكتب والكتابات، ويدون ما استطاع من الآفات، ويتفكر مليًا في منهجه في إعداد خطبه؛ ويُحدِّث نفسه قائلًا: "لقد كنت عالة على خطب غيري؛ لم أبدع جديدًا ولم ابتكر مفيدًا! إنني لا أذكر يومًا ما قد انفعلت أو تفاعلت مع خطبتي إلا انفعالًا مصطنعًا مزيفًا! لذلك ما رأيت من الناس إقبالًا ولا عملًا بما أقول؛ والسبب ما اتفق عليه الأولون والآخرون: "ما خرج من القلب وقع في القلب، وما خرج من اللسان لم يتعدَّ الآذان"([9])، وهو نفس ما أكد عمر بن عبد العزيز قائلًا: "لا ينفع القلب إلا ما خرج من القلب"([10])...
وما أسرع ما تمر الأوقات، فقد جاء يوم الجمعة سريعًا، وصعد الخطيب المنبر وقد استفرغ الوسع والطاقة في تحضير خطبته من أمهات الكتب ومن غيرها، صعد وقد وعى الدرس وأدرك الفرق... صعد المنبر وعيناه تتلفتان يمينًا وشمالًا تبحثان عن الشيخ مسعود، وما استقرت عيناه إلا حين وقعتا عليه... اجتهد الخطيب في خطبته؛ وحاول أن يعالج أمراض مجتمعه وأن يمس قضايا أمته وأن يعيش معاناة الناس من حوله، ونزل من على منبره وهو يتساءل: تُرى هل وُفقْتُ فيما قلتُ؟ تُرى هل أديتُ الأمانة على خير وجه؟.. أقيمت الصلاة فصلى وقلبه وجلٌ ونفسه ضارعة إلى ربه أن يكون قد أصاب...
وما أن انتهت الصلاة حتى فوجئ بشيء لم يعهده من قبل؛ لقد قام إليه عدد من الناس يشدون على يديه متأثرين، أحدهم يقول: "لقد مسست اليوم الجرح وشخصت الداء"، والآخر يردد: "جزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرًا"، والثالث يعاتب في ود: "أين كان هذا من قبل؟"... وكانت هذه أولى البشارات لخطيبنا بأنه قد وضع قدميه على طريق الصواب.
تريث خطيبنا هنيهة قبل أن يدخل غرفته، ولما دخلها لم يغلق بابها، وعيناه منصبتان من خلال الباب متشوفًا؛ هل يأتيه الشيخ مسعود الآن؟ ولم يطل به الحال؛ فها هو الشيخ مسعود يخطو على عصاه مقبلًا إليه، قام إليه خطيبنا مسرعًا متبسمًا متلهفًا فأخذ بيده وعاونه حتى جلس، وبادره بالسؤال: هل أحسنتُ في خطبتي اليوم يا شيخ مسعود؟
فتبسم الشيخ مسعود ابتسامة ودود ثم قال: "ما أذكاك من خطيب وما أحصفك!! لقد وعيت الدرس سريعًا وطبقته تطبيقًا واعيًا، أراك قد تخليت عن تقليد غيرك، ووجدت نفسك، واستعنت بربك، وعرفت الطريق".
فسأله الخطيب: يا شيخ مسعود، لي سؤال أخير -وقد علمتُ من جيرانك أنك خطيب نحرير- أليس للتقليد من فوائد؟.. فأجابه الشيخ مسعود: بلى يا بني، إنه له بعض الفوائد؛ فإنه أحد طرق التعلم والتعليم واكتساب المهارات، لكن ذلك مشروط بأن لا يخرج التقليد عن كونه: "اقتداءً بالغير في الخير"، وأن لا يتعدَّ كونه استفادة من خبرات الآخرين والنهل من معارفهم والانتفاع بتجاربهم، مع الاحتفاظ باستقلاليتك وشخصيتك وأسلوبك الخاص... أما إذا آل بك التقليد إلى انسلاخك من نفسك وتقمصك لشخصية غيرك، وتنحيتك لأسلوبك وطريقتك وتبنيك لأسلوب غيرك، فعندئذ يكون الخطب الجلل؛ لأن ذلك لا يُخرِج إلا مسخًا مشوهًا ونسخة شائنة لغيرك.
اعتدل الشيخ مسعود في جلسته، ثم قالها كلمات يودع به الخطيب؛ فلعله لا يستمع إليه ثانية حين يخطب كل منهما في مسجده:
يا بني: قد عرفت الطريق فالزمه ولا تحد عنه؛ استفد من خطب غيرك، بشرط: ألا تجعل كل مصادرك في تحضير خطبتك هي خطب الآخرين وحسب، بل اقترب من القرآن الكريم وعُبَّ من معانيه، وغُص في كتب السنة النبوية واستخرج لآلئها، ثم انتقل إلى كتب الأقدمين ثم المحدثين، وانتقي من كلٍ أفضل ما فيه، وخذ من كل بستان أجمل زهراته... فإن فعلتَ كنتَ كالنحلة تطوف على رائع الثمار والورود ثم تطبخها في بطنها فتُخرج عسلًا سائغًا شهيًا (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)[النحل: 69]؛ فكذلك أنت إن فعلتَ ذلك، خرج من فمك ما يشفي الله -تعالى- به أمراض القلوب وآفات السلوك.
([1]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/36)، ط: دار الكتب العلمية، بيروت.
([2]) نفس المصدر السابق (1/6).
([3]) إحياء علوم الدين، لأبي حامد (2/314)، ط: دار المعرفة، بيروت.
([4])الزهد، لأحمد بن حنبل (ص: 262)، ط: دار الكتب العلمية، بيروت.
([5])المحلى بالآثار، لابن حزم (1/88)، ط: دار الفكر، بيروت.
([6]) الخطابة، مادة مقررة على طلاب جامعة المدينة العالمية، كود المادة: LARB4224 (ص: 109).
([7]) البخاري (127).
([8]) مسلم (5).
([9]) عيار الشعر، ابن طباطبا (المتوفى: 322هـ) (ص: 22)، ط: مكتبة الخانجي القاهرة.
([10]) حلية الأولياء لأبي نعيم (5/288)، ط: السعادة بجوار محافظة مصر.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم