عناصر الخطبة
1/موسم الحج والتذكير بيوم الحشر2/زفرات وحسرات يوم الحشر 3/حديث الشفاعة 4/السؤال والحساب 5/التحذير من الغفلة.اقتباس
ذلكم اليوم سنمر به جميعاً فلا متخلّف، سنعاين أهواله فلا مفرّ، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يُبعَثون من القبور، بعد النفخ في الصور، فيخرجون عُراة حفاة غرلاً، لا مُلك، لا ثياب، لا أصحاب، لا حِجاب، بارزون لا تخفون...
الخُطْبَة الأُولَى:
اللهم لك الحمد على التمام، أدركنا بحمد الله موسم الخيرات، وعِشنا العشر المباركات، وتقلَّب مَن حج ومن أقام بين أنواع العبادات، فلك الحمد ربنا على ما أنعمت.
أدَّى الحجاج حجّهم بيسر وسهولة، وانقضى الموسم بأمن وسلامة، واستبشر المؤمنون بسلامة المشاعر وقاطنيها، والحرمِ ووافديه، فلله الحمد على ذلك كثيراً، فلولا ربنا ما تحقق ذلك، والأمر كله بيده.
ثم شكرٌ مسدى، ودعواتٌ مرفوعة لكل من لِخدمة الحجيج سعى، وبِحفظ أمنهم وسلامة أبدانهم اعتنى، حكومةً وأفراداً، وجهاتٍ ووزارات، وجزاءُ هؤلاء عند ربهم، فَمَنْ أكرمَ أضيافه وَوَفده فالله يكرمهم بفضله ورِفده.
يا كرام: استوقفني كثيراً كيف أن الله ختم آياتِ الحج بوصية عظيمة، وتذكير جليل، في قول الحق –سبحانه-: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[البقرة: 203]، ولعل سبب ذلك أن موسم الحج يُذَكِّر بيوم الحشر.
لقد اجتمع المؤمنون فيه، بألوانٍ مختلفة، ولغاتٍ شتى، وبلدانٍ متنوعة، تتلاشى هناك الفوارق، وتضمحل أوجه التمايز، وتتواسى الرؤوس، قد برزوا في الشمس، الكلّ منهم وَجِل، ينتظر من ربه الغفران، وإن أصحاب القلوب الحية ليذكِّرهم ذلك بموقف الحشر الأكبر.
ذلكم اليوم سنمر به جميعاً فلا متخلّف، سنُعاين أهواله فلا مفرّ، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يُبعَثون من القبور، بعد النفخ في الصور، فيخرجون عُراة حفاة غرلاً، لا مُلك، لا ثياب، لا أصحاب، لا حِجاب، بارزون لا تخفون، فيا أيها المؤمنون اعلموا أنكم إليه تحشرون.
ذلكم اليوم سيتغير فيه الكون، فالشمس تُكوّر، والنجوم تنكدر وتتناثر، والجبال نسفت وسيّرت فأصبحت كالعهن المنفوش، العشار عُطّلت، الأموال تُركت، التجارات نُسيت، السماء كشطت ومُسِحت وأزيلت، البحار سُجِّرت، وإلى نارٍ تحولت، الجحيم سعرت وأوقدت، والجنة أزلفت وقُرِّبت، فيا أهل الحج اعلموا أنكم إليه تحشرون.
نعم هو يوم القيامة، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين، يومٌ عظيم وخَطبٌ جَسِيم، يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من آدم -عليه السلام- إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم .
الزلزلة حينها عظيمة، من جرائها تُسقِط الحبالى لو وُجِدت، وتشيب الولدان وقد وجلت؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1- 2]؛ فيا أهل الموسم اعلموا أنكم إليه تحشرون.
الحرُّ شديد، والشمسُ على مقدار ميل، والعَرَقُ يُلجِم البعض إلجاماً، والمقامُ طويل، لا يتكلم حينها إلا الرسل، ولا يقولون إلا اللهم سَلِّم سَلِّم، يبحث الناس عن شفيع، فيتنقلون بين الأنبياء فكلٌ يعتذر، حتى يتولى ذلك رسولنا -عليه السلام-، فيشفع عند ربه في تعجيل القضاء، فيا أيها الناس أعدوا ليوم فيه تحشرون.
يقول المصطفى -عليه السلام-: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ.
فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ".
وهكذا يتنقلون من نبي إلى نبي، حتى يأتون محمداً -عليه السلام-، فَيَقُولُونَ: "يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
قال: فَأَنْطلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ".
فيسأله ربه تعجيل القضاء، ويسأل ربه لأُمّته، فيقال له: "يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".
ثم يجيء الله للقضاء، فيؤتى بالعبد، ويوقف بين يدي الرب، فيُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وتَبرز له أعمالٌ نسيها، وأقوال ما ثَمّنها، ويقول حينها: (مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف: 47]؛ على يمينه حسناتُه، وشماله سيئاته، والنار تلقاء وجهه، فأين يفر، الملائِكُ من حوله، والناس ينظرون إليه، والحاكم هو الله، فما أشده من موقف؟!
علّام الغيوب الذي لا تخفى عليه الخوافي يقول لعبده: ما حملك على معصيتي؟ ألم أُكرمك وأسودك؟ وأُسخّر لك النعم، وأذرَك ترأس وتربع؟ عندها لا تسل عن حياء المسلم من ربه الذي أنعم عليه، ثم هو على المعاصي يُوقِفه، ولا تسل عن العاصي الذي يناقشه ربه الحساب ثم يعذبه، لذا -يا مؤمنون- اعلموا أنكم إليه تحشرون.
وبعد طول المكوث، وشدائد الأهوال، والميزان والصراط، والأحوال الشداد، يستقر الناس في دارين، في جنة عرضها الأرض والسماوات، أو نار تلظى، عصمنا الله منها. لأجل كل هذا لزامٌ على كل مسلم حاج أو مقيم أن يستوعب هذه الوصية، وأن يتهيأ لغده، ويتذكر أحوال آخرته، وأن يعلم أنه إلى ربه يحشر.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده.
كثيراً ما نغفل في الدنيا عن الأخرى، ونلهو عن الحقيقة الكبرى، وهي أننا عما قريبٍ راحلون، وأننا إلى ربنا محشورون.
والقرآن يقرر لدنيا قضيتان عظيمتان في هذا الأمر؛ أما أولهما فَقُرْبُ الآخرة، وأننا عنها لاهون؛ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء: 1- 3].
وأما الثانية، فهي أن الهول شديد، حين يحكي جُثي الأمم، وبلوغ القلوب الحناجر؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1- 2].
وإذا كان الناسُ في الدنيا يتفاضلون، وقد يرتفع الوضيع، وينزل الرفيع، ففي الآخرة تختلف الموازين؛ لأنها باختصار (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ)[الواقعة: 3]، والرفعةُ هناك ستكون بما عَمِلت هنا من طاعات وقربات.
ألا فرحم الله امرأ تهيَّأ واستعد، وجعل من موسم الحج مُذكِّراً له لموقف الحشر، واستوعب قول ربه في آخر آيات الحج؛ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
اللهم أحي قلوبنا من الغفلة، وارزقنا الاستعداد ليوم النُّقلة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم