أذيَّة الناس

سليمان بن خالد الحربي
1447/05/15 - 2025/11/06 07:48AM

 

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين.

وبَعْدُ:

فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ المصِيرُ} [آل عمران:28].

معاشرَ المؤمنين: محبَّة اللهِ لعباده المؤمنين والموحدين أفضلُ ما يجنيه العبدُ المؤمن، وأجدر بها خصلة ينالها أهل الإيمان، إن الله يحب المتقين، يحبهم ويحبونه،{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].

 ولئن كان المسلم بهذه المكانة عند ربه، والمنزلة العلية عند مولاه، فإنه يزول عجبُك حينما ترى حُرمة المسلم وحرمة عِرضه وتحريمَ أذيتهِ، بل صار من يحذر من شره هو شر الناس عند الله، تأملوا هذا الحديث العظيم واستعيذوا بالله من هذه الخصلة، روى البخاري ومسلم، من حديث عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم- فَلما رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ بْنُ الْعَشِيرَةِ»، فَلما جَلَسَ تَطَلَّقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلما انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ في وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ وَأَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ»([1]).

لم نرى بعض الناس يجيد وبحذق صناعة الكراهية له وصناعة َ العداوات، مفلسًا من هذه السجايا كإفلاس اليد من قبض الماء؟

 إن الإسلام حينما يؤصِّل تحريم أذية الناس كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، من الخطأ أن تحصر الإيذاء فقط بغصب الأموال ونهبها، أو الاعتداء باليد، إن الإيذاءَ مفهومٌ عام لكل ما يؤذي الناس في أبدانهم وأموالهم ومشاعرهم، الإسلام نهى عن ذلك وحرَّمه، بل هو كبيرة من كبائر الذنوب، ونهى عن التخلي وقضاء الحاجة في طريق الناس، ونهى أن يتناجى اثنان دون الثالث.

 قصورٌ كبيرٌ أن نرى هذا الأصل في ضعف وتَدَنٍّ، ونحن نسمع ما جاء في صحيح مسلم، من حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ في سَبِيلِهِ». قَالَ: قُلْتُ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا». قَالَ: قُلْتُ فَإِنْ لم أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ». قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ على نَفْسِكَ»([2]).

تكفُّ شرك عن الناس، والسؤال ما هو حدُّ الشر؟ لم نحصرُ الشرَّ بِغِيبَةٍ أو بضربٍ مثلًا؟ لم لا نعدُّ من الشر عدمَ اعتبارِ قيمة المسلم الذي أمامك؟ لم لا نعد إحزانه بأي أسلوب منك من الشر؟ لم لا نعدُّ جره إلى الوقيعة بك والتحدث فيك وفِتْنته بك من الشر الذي يجب عليكَ أن تصرفه عن أخيك؟

 أدعوكم جميعًا لنتأمَّلَ قول موسى-عليه السلام- وقومه، لنعرف أن كثيرًا منا يحتاج إلى إعادة فهم لمفهوم كفِّ الأذى، قال موسى -عليه السلام-:{يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلمينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالمينَ} [يونس: 84، 85].

 قال المفسرون: إذا كان موسى قد دعا ربه ألا يجعله فتنةً للقوم الظالمين، فما بالُ بعض المؤمنين يجعل نفسه فتنةً للمؤمنين؟ أليس من حقهم عليك أن تدفع عنهم الإثمَ؟

ولنستمع إلى هذا الوعيد الشديد من الله -جل جلاله-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، وهذا التَّشديد لأنَّه كان في المدينة يومذاك فريقٌ يتولَّى هذا الكيدَ بالمؤمنين والمؤمِنات، بنشرِ قالةِ السُّوء عنهم وتدبير المؤامرات لهم وإشاعة التُّهَم ضدَّهم.

وقد روى مسلم في صحيحه، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَرَّ -فِي حَالِ كُفْرِهِ- عَلَى سَلمانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عَدُوِّ اللهَ مَأْخَذَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟ فَأَتَى النَّبِيَّ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ». فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهُ! أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا. يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَخِي([3]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

معاشرَ المصلين، بعد هذه الشَّذرَاتِ العظيمة في مكانة المسلم عند ربه، نلتفت إلى تصرفاتنا، نلتفت إلى حجم هذه القيمة في أنفسنا، لم تقف التجاوزات والممارسات الخاطئة عند حدٍّ معين، فإن من الناس من مارس كل أنواع الأذية مع الناس فضلًا عن إيذائهم وتكدير خواطرهم وإزعاجهم، هل شعرت فقط بحجم تكدير خاطره مع ربه ومع نفسه ومع أهله حتى أذهبتَ خشوعه في صلاته وصرفتَه عن نفع نفسه ونفع غيره، وقارن بين فعلك وبين شرع الله، فيما رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ»([4]).

 ولفظ أبي يَعْلَى في مُسنده: «فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي المؤْمِنَ، وَاللهُ يَكْرَهُ أَذَى المؤْمِنِ»([5]).

 ورى الترمذيُّ وحسنه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صَعِدَ المنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلم بِلِسَانِهِ، وَلم يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المسْلمينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المسْلم تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ»، ثم نظر ابنُ عَمَرَ
-رضي الله عنهما- إلى البيتِ أو إلى الكعبةِ فقال: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ»([6]).

 نعم، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل صِدْقَ الإيمان وصِدق اليقينِ منافيًا لأذيةِ المؤمنين بقوله: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلم بِلِسَانِهِ، وَلم يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ»([7]).

يقول الفُضَيْلُ -رحمه الله-: «لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَكْرَمُ مَخْلُوقٍ؟!»([8])

وعن قَتَادَةَ: «إِيَّاكُمْ وَأَذَى المؤْمِنِ، فَإِنَّ اللهَ يَحُوطُهُ وَيَغْضَبُ لَهُ»([9]).

 وقال يحيى بن مُعاذ: «لِيَكُنْ حَظُّ المؤْمِنِ مِنْكَ ثَلَاثَةً: إِنْ لم تَنْفَعْهُ فَلَا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لم تُفْرِحْهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لم تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ»([10]).

وهنا رسالتان: الأولى إلى من أساء إلى الناس وآذاهم بلسانه أو يده أو بالتعدي على أموالهم، أو امتحنهم في توجهاتهم أو إخلاصهم أو وطنيتهم أو وظيفتهم، قد سمعت من كلام الله ورسوله ما لو سمعه الحَجَر لاندَكَّ وجلًا خائفًا من غضبِ الله وسخطهِ، ولا يجد وليًّا ولا نصيرًا، فَخَفِ الله وراقِبْه واتَّقِ دعوةَ المظلوم وصيحات الخائفين والمظلومين؛ فإنهم ليس بينهم وبين ربهم حجابٌ ولا مانعٌ، وتذكر ذلك المفلس الذي يأتي يوم القيامة وله أعمال يرجيها، فقد كان من أهل المساجد والصلاة، وكان من أهل البَذْلِ والصدَقات، وكان من أهل الصيام في الهواجر، ينتظر فضل الله وعطاءه ورحمته، لكنه أتى بما يسحق كل هذا، أتى وقد شتَم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فتؤخذ حسناته بالعدل إلى من ظلمه وشتمه، فوالله إن هذا لهو الخُسران المبين، وتلك هي الحَسرة الأكيدة.

والرسالة الثانية إلى من أصابه الأذى، تَقَوَّ بربك، وأسندْ ظهرك إليه وتو كل عليه؛ فإن أقوى الناس من توكل على الله، واعلم أن العفو هو أعظم الأعمال، ولما أُوذِيَ أبو بكر من رجل كان له عليه إحسانٌ أقسم أن لا يَبَرَّهُ، فقال الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالمسَاكِينَ وَالمهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].

 

 

 



([1]) أخرجه البخاري (5/2244، رقم 5685)، ومسلم (4/2002، رقم 2591).
([2]) أخرجه مسلم (1/89، رقم 84).
([3]) أخرجه مسلم (4/1947، رقم 2504).
([4]) أخرجه البخاري (5/2318، رقم 5930)، ومسلم (4/1717، رقم 2183).
([5]) مسند أبي يعلى (4/332، رقم 2444).
([6]) أخرجه الترمذى (4/378، رقم 2032).
([7]) المصدر السابق.
([8]) مكارم الأخلاق للخرائطي (رقم: 377)
([9]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/45).
([10]) جامع العلوم والحكم (1/336).

المرفقات

1762404503_أذية الناس.docx

المشاهدات 318 | التعليقات 0