أعمال المبشرين بالجنان (1-10): الصديق
راكان المغربي
أعمال المبشرين بالجنان (1-10): الصديق
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أما بعد:
فِي مَجْلِسٍ مِنَ المَجَالِسِ الإِيمَانِيَّةِ، وَرَوْضَةٍ مِنَ الرِّيَاضِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ، إِذْ بِهِ يُطْلِقُ تَصْرِيحًا عَجِيبًا، وَيَزُفُّ بُشْرَى غَيْرَ مَأْلُوفَةٍ، لِأَشْخَاصٍ مُحَدَّدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ.
إِنَّهُ لَا يُبَشِّرُهُمْ بِحَفْنَةٍ مِنَ المَالِ، أَوْ وِلَايَةٍ عَلَى الأَقْطَارِ؛ بَلْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ، وَأَبْهَى وَأَجْمَلُ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَشْرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ).
أَلَا مَا أَبْهَى الْجَائِزَةَ! وَمَا أَعْظَمَ الْبُشْرَى!
مَا زَالُوا عَلَى الْأَرْضِ يَمْشُونَ، وَفِي مَيَادِينِ السِّبَاقِ يَتَنَافَسُونَ. وَقَبْلَ النِّهَايَةِ بُشِّرُوا بِبُلُوغِ الْمَنْزِلِ، وَسَلَامَةِ الْوُصُولِ، وَصُدُورِ النَّتِيجَةِ، فَشُهِدَ لَهُمْ بِالْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ، وَتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ وَأَعْظَمِ الْأَرْبَاحِ.
يَا تُرَى أَيُّ شَيْءٍ عَمِلُوهُ حَتَّى يَبْلُغُوا هَذِهِ المَنْزِلَةَ العَالِيَةَ؟
جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ سَيَكُونُ مِحْوَرَ خُطْبَتِنَا اليَوْمَ وَخُطَبٍ لَاحِقَةٍ غَيْرِ مُتَتَالِيَةٍ -بِإِذْنِ اللَّهِ-. سَنَأْخُذُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ أَحَدَ هَؤُلَاءِ المُبَشَّرِينَ، فَنَرْقُبُ مَسِيرَهُ، وَنَقْتَفِي أَثَرَهُ، وَنَتَتَبَّعُ خُطَاهُ، لِنَلْتَمِسَ مِنْ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ وَعَمَلِهِ، مَا يُبَلِّغُنَا شَيْئًا مِمَّا بَلَغَ، وَيُوصِلُنَا إِلَى الجِنَانِ الَّتِي وَصَلَ.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ
أَوَّلُ هَؤُلاءِ العَشْرَةِ هُوَ السَّيِّدُ التَّقِيُّ، وَالصَّاحِبُ الوَفِيُّ، عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. فَتَعَالَوْا نَقْطِفْ مِنْ زَهَرَاتِ سِيرَتِهِ، وَنَسْتَنْشِقْ مِنْ عَبِيرِ قِصَصِهِ، مَا يَكُونُ مُلْهِمَاً لِعَزَائِمِنَا، وَمُعْلِيَاً لِهِمَمِنَا. وَلِأَنَّ سِيرَةَ الصِّدِّيقِ لَا تَكْفِيهَا الْخُطَبُ، وَلَا تُجْمِلُهَا الْعِبَارَاتُ، فَسَنَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ نَحْسَبُ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ بُلُوغِهِ الرِّضْوَانَ، وَتَبْشِيرِهِ بِالْجِنَانِ.
العَمَلُ الأَوَّلُ هُوَ الصِّدِّيقِيَّةُ.
ذَلِكَ العَمَلُ الَّذِي حُلِّيَ بِهِ، فَصَارَ لَهُ رَمْزَاً وَلَقَبَاً. هُوَ الصِّدِّيقُ الَّذِي بَادَرَ بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَزَمَ الصِّدْقَ وَالتَّصْدِيقَ فِي كُلِّ حَيَاتِهِ، فَلَمْ يَتَرَدَّدْ إِيمَانُهُ لَحْظَةً، وَلاَ اهْتَزَّ تَصْدِيقُهُ قَيْدَ شَعْرَةٍ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِبُ أَصْحَابَهُ: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ)
فِي مَوْقِفِ الْإِسْرَاءِ تَجَلَّى عِظَمُ تَصْدِيقِ أَبِي بَكْرٍ وَرُسُوخُ إِيمَانِهِ، فَتَحْكِي ابْنَتُهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ."
وَمِنْ مَوَاقِفِ تَصْدِيقِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَا حَصَلَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، حِينَ عَقَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ مَعَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ يَظْهَرُ مِنْ بُنُودِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِجْحَافِ لِلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى غَضِبَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ عَقْدِ هَذَا الصُّلْحِ، لَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَيَقَّنَ بِصِدْقِ إِيمَانِهِ أَنَّ اللَّهَ لَنْ يُخَيِّبَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَحِينَ جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ عُمَرُ: أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى. قَالَ عُمَرُ: أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى. قَالَ عُمَرُ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ، الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ، ولَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ!
وَمِنْ أَعْظَمِ مَشَاهِدِ رُسُوخِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ، مَا كَانَ مِنْ ثَبَاتِهِ حِينَ نَزَلَتِ الْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى، وَالدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى، وَذَلِكَ عِنْدَمَا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ بِالصَّحَابَةِ مِنْ عِظَمِ الْمُصَابِ، وَشَدِيدِ الْكَرْبِ مَا لَا يَتَخَيَّلُهُ إِنْسَانٌ، حَتَّى طَاشَتْ عُقُولُ أَكَابِرِهِمْ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ جِبَالَ إِيمَانِهِ لَمْ تَهْتَزَّ، فَنَطَقَ مِنْ عُلُوِّ إِيمَانِهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْخَالِدَةِ الَّتِي هَطَلَتْ عَلَى قُلُوبِ الْأَصْحَابِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا: (أَلَا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ)
قَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: "مَا سَبَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ".
وَالْمَقْصُودُ هُوَ عِظَمُ إِيمَانِهِ، وَكَمَالُ صِدِّيقِيَّتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
ثَانِي أَعْمَالِ أَبِي بَكْرٍ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نُرِيدُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا: هُوَ نُصْرَتُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَقَدْ بَذَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَنَصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَخَّرَ كُلَّ مَا يَمْلِكُ لِلدِّفَاعِ عَنْ حِيَاضِ الدِّينِ.
فَمُنْذُ أَيَّامِ الدَّعْوَةِ الْأُولَى قَامَ مُبَاشَرَةً يُسَانِدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّعْوَةِ، وَيُشَارِكُهُ فِي الْبَلَاغِ، حَتَّى دَخَلَ بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ خَمْسَةٌ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمْ: عُثْمَانُ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
وَمِنْ مَوَاقِفِ الْبَذْلِ وَالتَّضْحِيَةِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مَوْقِفُ الْهِجْرَةِ، ذَلِكَ الْمَوْقِفُ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ مَوْقِفٌ عَصِيبٌ، سَيَتَعَرَّضُ فِيهِ لِلْمُلَاحَقَةِ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَرُبَّمَا الْقَتْلُ وَالْحَبْسُ. لَكِنَّهُ بِمُجَرَّدِ أَنْ عَلِمَ عَنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَادَرَ إِلَى طَلَبِ صُحْبَتِهِ، فَهُوَ صَاحِبُ الصِّدْقِ الَّذِي يَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُطِيقُ فِرَاقَهُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، يَحُوطُهُ وَيُدَافِعُ عَنْهُ وَيَنْصُرُهُ.
جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: (إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ).
وَفِي رِحْلَةِ الْهِجْرَةِ بَرَزَ حُبُّ أَبِي بَكْرٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَدْ كَانَ يَحْلُبُ لَهُ اللَّبَنَ، وَيَنْفُضُ لَهُ الْفِرَاشَ، وَيُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ يَمِينًا وَشِمَالًا خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَمِنْ مَوَاقِفِهِ فِي النُّصْرَةِ تَسْخِيرُ مَالِهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَرِفْعَةِ دِينِهِ، حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: (مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ).
هَذَا الْمَجَالُ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ أَبَا بَكْرٍ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ يَوْمًا أَنْ يُنَافِسَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ اعْتَرَفَ بِالْهَزِيمَةِ، يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فقال عُمر: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا)
ثَالِثُ أَعْمَالِ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي نَوَدُّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، هُوَ الْمُسَارَعَةُ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَالْمُسَابَقَةُ فِي مَيَادِينِ الصَّالِحَاتِ.
فَفِي يَوْمٍ مَا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَسْئِلَةً مُفَاجِئَةً، فَقَالَ لَهُمْ: (مَن أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟) فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (أَنَا)، قَالَ: (فَمَن تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟) فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (أَنَا)، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟) فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (أَنَا)، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟) فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (أَنَا)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
وَعِنْدَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ طَمَحَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُنَادَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا، فَحِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن كَانَ مِن أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَن كَانَ مِن أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِن بَابِ الْجِهَادِ، وَمَن كَانَ مِن أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَن كَانَ مِن أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِن بَابِ الرَّيَّانِ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) قَالَ: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ).
تِلْكَ هِيَ مَنْزِلَةُ الصِّدِّيقِ، وَتِلْكَ هِيَ بَعْضُ أَعْمَالِهِ الْجَلِيلَةِ، فَاعْلَمُوهَا وَاعْمَلُوا بِهَا وَعَلِّمُوهَا أَوْلَادَكُمْ عَسَى أَنْ تَكُونُوا وَإِيَّاهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْجَنَانِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:
لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ لِأَبِي بَكْرٍ قَدْرَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِصِدْقِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَيَّنَ لِلصَّحَابَةِ فَضْلَهُ، وَعَرَّفَهُمْ بِعَظِيمِ قَدْرِهِ.
فَفِي خُطْبَةٍ مِنْ خُطَبِهِ الْأَخِيرَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:
(إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبَا بَكْرٍ، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غيرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ، ولَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلَامِ ومَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ في المَسْجِدِ بَابٌ إلَّا سُدَّ إلَّا بَابَ أبِي بَكْرٍ).
وَقَدْ تَعَلَّمْنَا فِي خُطْبَةِ الْيَوْمِ ثَلَاثَةً مِنْ أَعْمَالِ أَبِي بَكْرٍ الْعَظِيمَةِ، وَمَا بَعْدَ الْعِلْمِ إِلَّا الْعَمَلُ، وَمَا بَعْدَ السَّمَاعِ إِلَّا الِاتِّبَاعُ (فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿١٧﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).
فَلْنَصْعَدْ فِي دَرَجَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ بِزِيَادَةِ إِيمَانِنَا وَيَقِينِنَا بِاللَّهِ.
وَلَنَسْتَرْخِصْ كُلَّ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَرَفْعِ رَايَتِهِ.
وَلْنُسَارِعْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَنُسَابِقْ فِي أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ.
بِذَلِكَ سَبَقَنَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِذَلِكَ نُحَاوِلُ اللِّحَاقَ بِهِ -بِإِذْنِ اللَّهِ-.
قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟) قَالَ: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ).
فاللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُكَ أَنَّا نُحِبُّكَ، وَنُحِبُّ رَسُولَكَ، وَنُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّاً، وَالصَّحْبَ الْكِرَامَ.
اللَّهُمَّ فَأَوْرِدْنَا طَرِيقَهُمْ، وَاسْلُكْنَا سَبِيلَهُمْ، وَارْزُقْنَا مُرَافَقَتَهُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ..
المرفقات
1761814586_أعمال المبشرين بالجنان (1-10) الصديق.docx
1761814588_أعمال المبشرين بالجنان (1-10) الصديق.pdf