أين المستغيثون 23/5/1447 هـ
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله مغيث المستغيثين مجيب دعوة المضطرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كاشف كرب المكروبين ومسبغ النعم على عباده أجمعين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخشى الناس لربه وأتقاهم لمولاه وسيد المستغفرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا ربكم، وإن تؤمنوا وتتقوا يفتح لكم بركات من السماء والأرض.
اثنان وخمسون يوماً مدته، مضى أكثرها وتلاشت أيام موسم نزول الأمطار ، والأرض ما تزال يابسة هامدة مغبرة والسماء ممسكة، والآبار تغور، والبهائم تشكو إلى ربها وتجور.
أيام الوسم تمضي دون أن نرى سحابا أو نسمع رعدا أو نشاهد برقا ، فإذا الناس مبلسون وكالعادة حينما تأخرت الأمطار، وصارت الأرض هامدة خرجت فئة قليلة من المسلمين تستسقي ربها، إحياء لسنة نبيها، وأملا في خير ربها . والاستسقاء شعيرة لايعقلها إلا العالمون ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ، ولايوفق لها إلا الأصفياء من عباد الله ممن اختصهم الله برحمته وللوقوف بين يديه والتضرع إليه
وتخلفت الكثرة الغالبة، متعللة بأعذار أوهى من بيت العنكبوت، مصليات الاستسقاء تشكو قلة الواردين لأنها ليست مقاهي يختلط فيها الرجال مع النساء من أجل قهوة سوداء وعجينة بيضاء
فئة تخلفت لأنها تقول: كيف تستسقي الأمة ربها وهي لم تغير من حالها، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وكيف تستسقي الأمة ربها وهي تجاهر بالمعاصي والمنكرات ولا تسعى لإنكارها. فكيف يرزقون ؟
إن المرء ليعجب من هذا المنطق المعوج والذي يتخذه الكسالى مبررا للقعود عن الشعيرة ، والتخلف عن هذه العبادة
متى كانت المنكرات تعالج بهجر عبادة وتعطيل شعيرة فنغسل البول بالدم ..
إن الذنوب والمنكرات تعالج باللجوء إلى الله والتضرع إليه وهذه هي حقيقة الاستسقاء .. فماالذي يمنعك أن تشهد الاستسقاء لتستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات .. وتجأر إلى الله أن يغيث القلوب ويكشف الكروب ويغفر الذنوب
الاستسقاء يا مسلمون عبادة لا تؤدى بموجب قرار إداري بل هي أمر ممن له الخلق والأمر ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) وسنة أتقى البشر حينما يتأخر القطر وهي طاعة لله وخضوع لأمره [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] .
الاستسقاء شرع لإظهار العبودية الخالصة لله سبحانه، وربط القلوب به وتعليقها برحمته بعد أن كاد اليأس يتسرب إليها ويلفها القنوط والخلق خلق الله والأمر أمره وبيده سبحانه كل شيء [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ].
الاستسقاء إظهار للافتقار إلى الله والتجاء إلى قدرته وفرار إلى رحمته، والافتقار إلى الله من أخص خصائص العبودية، وحقيقته أن يجرد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويقبل بكليته إلى ربه عز وجل متذللاً بين يديه مستسلماً لأمره ونهيه متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته ، وإن لذة الحياة ومتعة الدنيا وجمال العيش وراحة النفس هي في شعور الإنسان بفقره إلى ربه.
الاستسقاء إعلان لضعفنا أمام القوي وفقرنا إلى الغني [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] ومن عرف قدر نفسه وأنه مهما بلغ فيه الجاه والسلطان والمال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً، تصاغرت نفسه وذهب كبرياؤه وذلت جوارحه وعظم افتقاره لمولاه والتجاؤه إليه وتضرعه بين يديه.
في الاستسقاء يعلن المسلم عزمه على التغيير من المعصية إلى الطاعة. فهو يقلب رداءه تفاؤلاً منه بتغير الحال من الشدة إلى الرخاء ومن المخالفة إلى الطاعة والامتثال.
تلك يا مسلمون حقيقة الاستسقاء، والتي فرغت من محتواها حينما تخلف عن شهودها كثير من الأخيار وحتى طلبة العلم والدعاة، وحينما خلت من معاني الذل والافتقار للعزيز الجبار.
ويوم أن يعظم الناس هذه الشعيرة ، ويسارعون إليها ويحيونها ويدركون حقيقتها .. ويوم أن يظهروا تضرعهم وخضوعهم للخالق الرازق .. حينها يرحم الرحيم ويتكرم الكريم وإن ربي لطيف لما يشاء
وثمت فئة تخلفت لأنها تحمل شعوراً بقلة الحاجة إلى مطر السماء؛ فالمياه العذبة لاتنقطع عن بيوتهم ومياه التحلية تصل من شرق البلاد إلى غربها.
وإلى هؤلاء يقال : من يغذي الآبار إلا الأمطار ؟ وماحالكم لو تعطلت محطة تحلية ؟ وماوضعكم لو انقطعت شبكة المياه ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين )
ماالذي يخرج في الأرض زينتها وزخرفها ؟ ماالذي يخرج نبات الأرض تأكل منه أنعامكم وأنفسكم ؟ ماالذي يلطف أجواءكم ويغسل غباركم ، ويقتل أوبئتكم .. ( وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز .. )
فهل ندرك بعد هذا حاجتنا لقطر السماء ؟ وهل نتخيل وضعنا وحالنا لو جفت الآبار وانقطعت الأمطار ؟
هل نحلق في عالم الماضين لندرك كم هم يعانون ؟ وهل نتجول ببصائرنا في عالم معاصرين يقفون طوابير أمام بئر ملوثة ، وأمم تنشيء صراعات مع أخرى من أجل مياه ؟ وأمم تموت عطشا من أزمات الجفاف
هل ندرك أنه لولا فضل الله علينا ورحمته لتساقط الناس عطشا لكن ربي بعباده لطيف خبير
وثمت فئة ثالثة تخلفت تحمل شعور اليائسين الغافلين عن سنن الله وحكمته في شريعته.. تردد في جهل وضعف إيمان، لماذا نستسقي ونحن نذهب إلى المصلى والسماء غائمة فإذا استسقى الناس انقشع الغمام وتفرق السحاب.
ولهؤلاء يقال : الاستسقاء تضرع ودعاء، والدعاء لا يخيب ولا يضيع، فإن استغثتم فلم تغاثوا، فلعل غيركم أغيث بدعوتكم، وكم من قوم سقوا بدعوة غيرهم، وإن لم تغاثوا فلعل الله قد ادخر الإجابة لحكمة يعلمها، فهو الحكيم العليم.
وإن لم تغاثوا قطراً، فلعل الله صرف بدعوتكم عنكم عذاباً وشراً وإن لم تغاثوا فلعل الله أراد بذلك أن تكثروا من الدعاء وليستخرج عبودية الخضوع من عباده وليسمع أنين التائبين وعبرات المذنبين. ( قل مايعيؤ بكم ربي لولا دعاؤكم ) ( وماكان الله معذبهم وهم يستغفرون )
أقول هذا القول ...
الخطبة الثانية ... أما بعد :
وفئة جاهلة بسنن ربها تنكر أن يكون الجفاف وانقطاع الغيث من تأثير الذنوب والمنكرات مستشهدة بأمم من الكفار تتوالى عليهم النعم ولاينقطع عنهم الغيث مع كفرهم وضلالهم
حقائق القرآن تعلن أن السماء لا تمنع خيرها ولا تحبس خيراتها وقطرها إلا إذا عمت الذنوب وانتشرت وماظهر الفساد في البر والبحر إلا بما كسبت أيدي الناس،
قد نشهد في بعض الفترات أمماً لا تتقي الله ولا تقيم شريعته وهي مع هذا موسع عليها في الرزق ممكن لها في الأرض غير مأخوذين من الله تفيض في أرضهم البركات، ولكن الناس إنما يستعجلون، إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ولا يرون نهايته والتي تُرى في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث.
إنهم يغفلون أن هذا ابتلاء [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ].
إنهم ينسون أنه رخاء ولكن مشوب بالآفات تأكله آفات الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي أو الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان كما هو الحال في دول الكفر.
نعم إذا كانت هناك أمم لا تستقيم على هدي الله ثم تنال الوفر والغنى، فإنما تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء وتحيل الحياة فيها جحيماً لا يطاق وعيشاً لا يحتمل [( فلاتعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا )
أما إنها حقيقة لا تتخلف، الذنوب تهلك أصحابها، والذنوب سبب كل بلاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد قادة جنوده بعد أن تأخر عنهم النصر: «والله إني لا أخشى عليكم كثرة عدوكم ولكني أخشى عليكم كثرة الذنوب» أجل، ذنوبنا جنت علينا وعلى بهائم وهوام وديدان تجأر إلى الله وتشكو ظلم الظالمين ومعصية العاصين، ووالله الذي لا رب غيره لولا لطف الله بنا ورحمته ولولا شيوخ في ظلمة الليل قليلاً ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون، ولولا أولو بقية من أهل الخير والصلاح ومن الناهين عن الفساد الآمرين بالمعروف والرشاد.. ولولا أطفال رضع وبهائم رتع لا ذنب لها لما استحقت الأمة نصراً ولا قطراً [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ )
لابد أيها المسلمون من إحياء شعيرة الاستسقاء بمعانيها الحقيقية وأهدافها العظيمة وصورتها الروحانية، ومظهرها الشرعي. لابد من خروج الكبار والصغار والنساء والرجال، والحيوانات والبهائم.. ولا بد أن يكون العلماء والدعاة والكبراء في الطليعة حاضرين. وبقلوب خاشعة وعيون دامعة وتذلل لرب العالمين، وبعزم على التوبة والتغيير.
وأخيراً يا مسلمون لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ولا يقنط من رحمته إلا الضالون.. والليل الدامس بعده صبح سافر، والظلمة العاتية بعدها نور مشرق والجدب القاحل يعقبه غيث مريع، وكل عسر بعده يسر فلله الحمد والمنة.
وإذا تفتحت القلوب للخير وامتلأت بخشية الله تفتحت أبواب السماء وتنزلت الخيرات والبركات.
لقد قال ربنا «أنا عند ظن عبدي بي» وظننا بربنا أنه يجيب دعوة المضطر ويكشف الضر ورحمته وسعت كل شيء، وفضله عم خلقه وهو بعباده لطيف خبير.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المرفقات
1763090516_أين المستغيثون.doc