إذ كنتم
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ الذي أبدلَنا بالخوفِ أمنًا، وبالفُرقةِ اجتماعًا، وبالجوعِ شِبَعًا.
والصلاةُ والسلامُ، على مَن دلَّ أُمّتَه، على سُبُلِ الخيرِ والفلاح، ثم حذّرَها من تركِها لكلِّ داعٍ بالضلالِ لاح، وسلَّم تسليمًا كثيرًا كلَّ مساءٍ وصباح.
أيها الناسُ، عليكم بتقوى الله، فهي النجاةُ من مَقتِ الله وعذابِه، إذا نزَل بالمكذِّبين، عند كثرةِ الفتنِ والفسادِ والانحراف، يقول الله تعالى:
﴿وَأَمّا ثَمودُ فَهَدَيناهُم فَاستَحَبّوا العَمى عَلَى الهُدى فَأَخَذَتهُم صاعِقَةُ العَذابِ الهونِ بِما كانوا يَكسِبونَ وَنَجَّينَا الَّذينَ آمَنوا وَكانوا يَتَّقونَ﴾ [فصّلت: ١٧-١٨].
وبعدُ:
إنَّ من اليقظةِ والوعي، الذي يُحمَدُ عند الأُمم، أن تذكُرَ نفسَها بأيامِ اللهِ ونِعَمِه، ثم تشكرَه عليها، حتى لا تُسلَبَ إيّاها.
وهو منهجٌ قرآني، فقد أخبرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ، أنَّه أمرَ موسى عليه السلام، بأن يُذكِّرَ بني إسرائيلَ بنِعَمِه، فقال سبحانه:
﴿وَلَقَد أَرسَلنا موسى بِآياتِنا أَن أَخرِج قَومَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ وَذَكِّرهُم بِأَيّامِ اللَّهِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكورٍ﴾ [إبراهيم: ٥].
وأيامُ الله؛ هي نِعَمُه التي تفضّل بها عليهم.
وهو عينُ ما فعلَه الأنبياءُ عليهم السلام، مع قومِهم من قبلِه وبعدِه، فقد تتابعوا على تذكيرِ أُممِهم بأيامِ الله عليهم.
فهُودٌ عليه السلام قال لعادٍ:
﴿وَاذكُروا إِذ جَعَلَكُم خُلَفاءَ مِن بَعدِ قَومِ نوحٍ وَزادَكُم فِي الخَلقِ بَسطَةً فَاذكُروا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [الأعراف: ٦٩].
وصالحٌ عليه السلام قال لثمودَ:
﴿وَاذكُروا إِذ جَعَلَكُم خُلَفاءَ مِن بَعدِ عادٍ وَبَوَّأَكُم فِي الأَرضِ تَتَّخِذونَ مِن سُهولِها قُصورًا وَتَنحِتونَ الجِبالَ بُيوتًا فَاذكُروا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ﴾ [الأعراف: ٧٤].
وشُعيبٌ عليه السلام قال لمدينَ:
﴿وَاذكُروا إِذ كُنتُم قَليلًا فَكَثَّرَكُم وَانظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ المُفسِدينَ﴾ [الأعراف: ٨٦].
وأوحى إلى نبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلام، أن يُذكِّرَ أصحابَه رضي الله عنهم، فقال:
﴿وَاذكُروا إِذ أَنتُم قَليلٌ مُستَضعَفونَ فِي الأَرضِ تَخافونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُم وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾ [الأنفال: ٢٦].
ونحنُ بدَورِنا، تأسّيًا بهؤلاءِ الأنبياءِ الكرام عليهم السلام، واتباعًا لمنهجِ القرآن، واستغلالًا للمناسبةِ التي تمرُّ بنا، نُذكِّرُ أنفسَنا بأيامِ الله علينا، في بلادِنا هذه المباركة.
فقد كُنّا في مَسغَبةٍ وجوعٍ؛ فأطعَمَنا الله.
وكُنّا في خوفٍ، فلا يأمَنُ الواحدُ على نفسِه وأهلِه ومالِه؛ فآمنَنا الله.
وكُنّا في شَتاتٍ وفُرقةٍ وخِلافٍ وعداءٍ، يُقاتلُ بعضُنا بعضًا، ويغزو بعضُنا بعضًا؛ فجمَعَنا الله وألَّفَ بين قلوبِنا.
وكُنّا في جهلٍ وأُمِّيّةٍ، يُطافُ بالكتابِ في بلدةٍ بأكملِها، فلا يُوجَدُ مَن يقرؤُه؛ فعلَّمَنا الله.
وكُنّا في أوبئةٍ وأمراضٍ، تفتكُ بأرواحِ الناسِ وصحّتِهم؛ فسلَّمَنا الله.
وكُنّا في فقرٍ وعَوزٍ؛ فأغنانا الله.
وكلُّ ذلك ممّا يستوجبُ الشكرَ، والدعاءَ بأن يُديمَ اللهُ علينا نِعَمَه الظاهرةَ والباطنة.
وممّا يجبُ ذِكرُه من النِّعَم أيضًا، وشُكرُ اللهِ عليه، أنَّ هذه النِّعَمَ ما كانت لتكون، لولا ما وفَّق اللهُ له آباءَنا المؤسِّسين، بقيادةِ مؤسِّس هذه البلادِ المباركة الملكِ عبدِ العزيز رحمه اللهُ جميعًا، بإقامته على أُسُسٍ متينةٍ وراسخة، متمثِّلةٍ في توحيدِ الله، والتمسّكِ بكتابِ الله وسُنّةِ نبيِّه عليه الصلاة والسلام، وتحكيمِ شرعِه في كلِّ كبيرةٍ وصغيرة، وامتثالِ الأخلاقِ الفاضلةِ والقيمِ الجليلة، وعمقِ الانتماءِ إلى هويّتنا وثقافتِنا العربيّةِ والإسلاميّة، ومدِّ جُسورِ الأخوّةِ والمحبّةِ والتعاونِ والتناصرِ مع إخوانِنا المسلمين في كلِّ مكان، ومعاداةِ كلِّ عدوٍّ للإسلامِ والمسلمين.
ولنحرصْ ـ معشرَ الأبناءِ الوارثين ـ على الاستمرارِ على ذاتِ النهج، والمحافظةِ على هذه المكاسبِ العظيمة، وحمايتِها وحياطتِها، حتى نُكمِلَ البناءَ ونُتِمَّ المسيرة.
ولنحذَرْ من أن نُبدِّلَ ونُغيِّرَ؛ فيُغيِّرَ اللهُ علينا، فإنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفُسِهم.
ولنعلَمْ، أنَّه ليس بيننا وبين الله نَسَبٌ ولا سبب، إلا عُروتُه الوُثقَى، وعهدٌ قطعه الآباءُ على أنفسِهم، فإن تمسّكنا به وُصِلَ سببُنا بسببِه، وإن أضعناه ـ والعياذُ بالله ـ أضاعَنا الله.
ومن أعظمِ ما ورثناه، الأخلاقُ الفاضلة، التي كنّا بها ـ ولا نزالُ إن شاء الله ـ محلَّ القُدوةِ والإكبارِ والإجلالِ والاحترامِ بين الآخرين، من كرمٍ وشجاعةٍ وحياءٍ وعِفّةٍ والتزامٍ وحِلمٍ وأناةٍ وترفُّعٍ عن العداواتِ والخصوماتِ ورحمةٍ وشفقةٍ على الضعيفِ والمسكين، فلنعضَّ عليها بالنواجذ، فما بقاؤُنا إلا ببقائِها.
فإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيَتْ
فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
ولنتَّعِظْ بسَبَأَ، التي ضربَ اللهُ لنا بها في القرآنِ مَثَلًا وآية، علَّمَنا بها عن أسبابِ التبدُّلِ والتغيُّرِ من حالٍ إلى حال، وهي الكُفرُ بنِعَمِ الله وتنكُّبُ صراطِه:
﴿لَقَد كانَ لِسَبَإٍ في مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتانِ عَن يَمينٍ وَشِمالٍ كُلوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُروا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفورٌ فَأَعرَضوا فَأَرسَلنا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلناهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَواتَي أُكُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَيءٍ مِن سِدرٍ قَليلٍ ذلِكَ جَزَيناهُم بِما كَفَروا وَهَل نُجازي إِلَّا الكَفورَ﴾ [سبأ: ١٥-١٧].
ولنتَّعِظْ بما يدورُ حولَنا، ممّا نزَل بشعوبٍ وأوطان، نسألُ اللهَ أن يرفعَ ما بهم من ضرّ.
فإنَّ ذلك أحرى أن تدومَ النِّعَم، وتُدفَعَ النِّقَم، ونبتعِدَ عن حالِ مَن قال اللهُ عنهم:
﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلوا نِعمَتَ اللَّهِ كُفرًا وَأَحَلّوا قَومَهُم دارَ البَوارِ جَهَنَّمَ يَصلَونَها وَبِئسَ القَرارُ﴾ [إبراهيم: ٢٨-٢٩].
اللهمَّ أوزِعْنا شُكرَك، ونعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، وفُجاءةِ نقمتِك..
أقولُ قولي هذا…
⸻
الثانية:
وبعدُ:
معشرَ الأبناءِ الوارثين، إذا شكَرْنا اللهَ على ما حبانا، وأقمْنا أنفسَنا على عهدِه ووعدِه، فنحنُ مُرشَّحون للاستمرارِ في ما بدأَه الآباءُ المؤسِّسون، خلفَ قيادةٍ لا تزالُ تُعلِنُ في كلِّ مناسبةٍ، تمسُّكها بالمبادئِ التي قامتْ عليها هذه البلاد، نسألُ اللهَ أن يُوفِّقَهم، ويُعينَهم، ويُلهِمَهم سبيلَ الرشاد.
ويحقُّ لنا حينها، أن نفرحَ ونُبارك لأنفسِنا هذا الوطنَ العزيزَ على قلوبِنا، ونتذكَّر ونشكُرَ كلَّ أحدٍ بذل ما في وُسعِه لبنائِه والحفاظِ عليه، قائلين:
شكراً ..
لكلِّ أبٍ من الآباءِ المؤسِّسين، جاهدَ حتى وضعَ لَبِنةً في مكانِها، ولم يكُ قبلَها شيئًا مذكورًا..
ولكلِّ حاكمٍ جاء بعدُ، فحافظَ على النهجِ والوعد..
ولكلِّ معلِّمٍ رفع جهلًا، وغرس أدبًا في نفوسِ أبنائِه..
ولكلِّ مفكِّرٍ أو باحثٍ، قدَّم خُلاصةَ عقلِه وفكرِه؛ ليرتقيَ بوطنِه وأبناءِ شعبِه في مدارجِ الوعيِ وأنوارِ المعرفة..
ولكلِّ شيخٍ أو عالمٍ، أخلَص في نصحِه حتى لا ينحرِفَ المسار..
ولكلِّ طبيبٍ قاومَ الأمراض؛ لينعمَ الجميعُ بالصحةِ والعافية..
ولكلِّ موظَّفٍ بذل قُصارى جهدِه؛ لتسيرَ مصالحُ الناسِ على أكملِ وجه..
ولكلِّ عاملٍ كانت قطراتُ عرقِه، الغيثَ الذي أعشبت أرضُنا بعدَه..
ولكلِّ أُمٍّ كانت بحنانِها وتربيتِها، بمثابةِ الوطنِ الصغير، الذي أخرجَ المواطنَ الصالحَ للوطنِ الكبير، الذي هو أيضًا بمثابةِ الأُمِّ الكبيرة..
ولكلِّ أديبٍ أو شاعرٍ، كان يحدو ركبَ الإنجازِ بأدبِه وشعرِه..
ولكلِّ جنديٍّ، باتت عينُه تحرُسُ كلَّ ذلك الإنجاز..
مبروكٌ لكم هذا الوطنُ، الذي هو منكم وإليكم، صنعتُموه وصنعَكم..
كلُّ ذرّةٍ فيه، شاهدةٌ على جهودٍ متضافرة، استلمَها الأبناءُ من الآباءِ أساسًا؛ فكانوا بُنيانَها الذي تعلّى، وبذورًا؛ فكانوا ثمارَها التي أينعَت، وأمانةً؛ فكانوا اليدَ التي أحاطت وحفظَت..
لو كان لنا في عامِنا الخامس والتسعين ـ معشرَ الأبناءِ الوارثين ـ أن نصطفَّ قد أخذ بعضُنا بيدِ بعض، لنتحدَّث إليكم ـ معشرَ الآباءِ المؤسِّسين ـ لقلنا لكم: ها هي ثمرتُكم، التي ربّما غادر كثيرٌ منكم ولم يرَها، تفتَّقت عن حُسنٍ وجمال، قد نجح جهادُكم وكفاحُكم، حملتُم عنّا العناءَ واستقبلنا بدلًا عنكم الرخاء..
نعدُكم أن نكون أوفياءَ لجهودِكم العظيمة، وللأساسِ المتين الذي أقمتم عليه هذا الكيانَ العظيم، المنبثقَ من دينِنا وقيمِنا وأخلاقِنا، حتى نُسلِّمَه لأبنائنا كما استلمناه منكم، أوفرَ ما يكون وأعظمَ ما يكون.
المرفقات
1758192826_إذ كنتم .docx
1758192826_إذ كنتم pdf.pdf
د. سلطان بن حباب الجعيد
عضو نشطمرفوع
تعديل التعليق