إنّه الصّدّيق رضي الله عنه
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
الخطبة الأولى
إخوة الإيمان: الحديثُ عن سِيَرِ العُظُماءِ حَدِيثٌ جَذَّابٌ، ومجلس تَهْفُو له القُلوبُ وَيَأْسِرُ الأَلْبَاب، وحديثي لكم في هذه الخطبة سيكون عن خَيْر مَنْ وَطِئَ الثَّرى بعدَ الأَنْبياءِ، عن شامةِ خَيْرِ القُرُون، حَسْبُكَ بهِ فَخْرَاً أنَّه ثَانيَ اثْنين في الغار، ويَكْفِيْهِ وِسَامَاً ثَنَاءُ الملكِ الجبَّار ِ)وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( كانَ يَسْمَعُ للنبي ﷺ فيقولُ بلا تَرَدُّدٍ أوْ تَلَعْثُمٍ: "صَدَقْتَ، صَدَقْتَ". إنه الصديق.
حسب القوافي وحسبي حين ألقيها أني إلى ساحة الصديق أهديها
إن المقام لا يَتسَعُ لِسِيرةِ أَبي بَكَرٍ وَفَضْلِهِ، والكلماتُ مَهْما بلغتْ تَقْصُرُ عن وَصْفِه، وإنما حَسْبُنا أنْ نَقْتَرِبَ مِنْ معالم وإشارات مِنْ الحياة المباركة لهذا الرجل العظيم.
وسأبدأُ بصفحة لم يَنْفَرِدْ بها الصدِّيقُ عن بقيةِ الأصحابِ، لكنَّه السابق فيها كعادته، فهو حَامِلُ الرَّايةِ في هذا البابِ. وهذه الصفحةُ هي صفحة المحبَّةِ للنبي ﷺ، وما أدراك عن تلكم المحبَّة؟
محبةٌ صادقةٌ خالصةٌ، تَنَفَّسَ بها أبوبكر، وتحرَّكتْ في نَفْسِهِ، كما يتحرَّكُ الدمُ في ورِيْدِهِ. الحديثُ عن حُبِّ الصدِّيقِ للنبيِّ ﷺ يَبْدَأُ ولا يَنْتَهِي... وها هنا بعض المشاهد التي تبين لنا حَجْمَ محبته للنبي ﷺ. ما ظنّكم بحبّ رجل أصابه العطشُ الشديد يومَ الهِجرة، فجاء بلبن ولم يشرب منه، وإنما ناوله للنبي ﷺ وقال له: اشرب يا رسول الله، يقول أبوبكر: فشرب النبي ﷺ حتى رضيت؛ -أي: طابت نفسي لكثرةِ ما شرب. وفي طريق الهجرة، وحين انتهى النبيُّ ﷺ وأبو بكر إلى الغار ليلاً، دخل أبو بكر قبله، فجعل يتحسس الغار ويفتّشهُ، لئلا يكون فيه شيء من السباع والهوام والقوارص، حتى أنه قطّع ثيابه وسد بها الثقوب، فلما رآه النبي ﷺ قال له: أقطعت ثيابك يا أبا بكر؟ قال: "أخاف من شيء يؤذيك يا رسول الله ". يقول عمر: "والذي نفسي بيده، لتلك الليلةِ خير من آل عمر".
أما في يوم فتح مكة فقد أسلم أبو قحافة والدُ أبي بكر، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فأخذه أبو بكر وذهب به إلى النبي ﷺ ليعلن إسلامه وبيعته، فلما أعلن إسلامه بكى أبو بكر، فسألوه: هذا يوم فرحة، فما الذي يبكيك؟ فقال أبو بكر: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي ﷺ الآن ليس أبي ولكن أبو طالب؛ لأن ذلك كان سيسعد النبي ﷺ أكثر.
وخطب عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ؟ قَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي مَا بَارَزْتُ أَحَدًا إِلاَّ انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ؟ قَالُوا: لاَ نَعْلَمُ، فَمَنْ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-؛ إنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ عَرِيشًا فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيْلاً؟ فَوَاللَّهِ، مَا دَنَا مِنْهُ إِلاَّ أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ : لاَ يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَهْوَى عَلَيْهِ، فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ.
ومن خصاله العظيمة التي لا تخطؤها عين الناظر في سيرته من المسارعة إلى الخيرات
فقد كان الصديق رضي الله عنه آية في المسابقة للخيرات ، فلا يُفتح بابٌ من أبوابِ الخيرِ إلا رأيتَه سبَّاقًا لذلك لا يتلكَّأ ولا يتردَّد، قال النبيُّ ﷺ يومًا لأصحابه: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. سمعتُ أنَّ أخي عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ مريضٌ فجعلتُ طريقي عليه إلى المسجدِ. قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. وجدتُ مسكينًا على بابِ المسجدِ وبيدِ ابني عبدِ الرحمنِ كسرةُ خبزٍ فأعطيتُه إياها. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
ولك أن تعلم أن الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وأبا عبيدة عامر بن الجراح كلهم يأتون يوم القيامة في ميزان أبي بكر لأنهم أسلموا على يديه.
وكانت شهادتُه [أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله] أعمقَ شهادةٍ قال عليه الصلاة والسلام: (لَوْ وُضِعَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى إِيمَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَرَجَحَ بِهَا). وتبـيَّن ذلك في غزوة الحديبية لما قال الفاروقُ وراجع النبي ﷺ ( يا رسول الله علام نعطي الدنية في الدين ) ماذا كان موقف أبي بكر؟ كان مختلفًا تمامًا عن جميع الصحب الكرام، قال أبو بكر يا عمر : أتشهد أنه رسولُ الله، قال الفاروقُ: نعم، قال: الزمْ غرزَه لا تهلَكْ؛ فإنه يُوحَى إليه. فندم عمر بعد ذلك من هذا الموقف حتى وفاته وكان يعمل له الأعمال. ثم بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ ظهر للعالمينَ شجاعةُ هذا الرجلِ الفائقةُ التي لا يبلغُها أحدٌ. فلما مات النبيُّ ﷺ وقع الصحابةُ في أمر مريج فبعضهم أنكر موتَه، وبعضهم أُقعِد، وهذا عُقِد لسانه، وكان الصديقُ غائبًا، فلما جاء هذا الرجلُ قبَّل النبيَّ ﷺ ، وقال: بِأَبِي أَنْتَ، وَاللهِ لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَهَا اللهُ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. وقال: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا. ثم خرج على الناسِ فثبَّـتَهم وقوَّاهم وشجَّعهم وذكَّرهم بكلامِ الله. ثم لما اختلفوا في موتِه ﷺ بيَّن لهم الأمرَ. ثم لما اختلفوا في الإمارةِ كما في سقيفة بني ساعدة كان له من الموقفِ الأعظمِ والشجاعةِ ورَباطَةِ الجأشِ ما أنقذ اللهُ به الأمةَ.
ثم لما جادلوه في إنفاذِ جيشِ أسامةَ لم يكن بالمتردِّد، قال: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَوْ جَرَّتِ الْكِلَابُ بِأَرْجُلِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ، وَلَا حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . ولما ابتُلي في خلافتِه بِرِدَّةِ العربِ قاطبةً ردّهم إلى الإسلام بالسيف و لما جادلوه في قتالِ أهلِ الردةِ -عمرُ فمن دونَه- قال في رَباطَةِ الجأشْ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. فثبَّتَ اللهُ به الأمةَ بعد وفاة نَبِيِّها ﷺ ، وحَفِظَ اللهُ به الدِّيْنَ بعدَ أنْ عَصِفَت الرِّدَّةُ عَصْفَتَها.
رضي الله عن أبي بكر الصديق وجميع الصحب والآل، وجمعنا بهم في مستقر رحمته..
الخطبة الثانية
ومن خصال الصديق العظيمة أنه أوقف حياته وماله كلَّها لله ، فقد كان الصديقُ ممن شارك اللهَ في ماله كثيرًا، بل ممن خرج من مالِه كلِّه للهِ أكثرَ من مرةٍ، وأنزل الله فيه: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضى) وكان يشتري المسلمين المماليكَ ويُعتِقَهم، فيقول أبوه: يا بني أني أراك تشتري أنفسًا ضعافًا لا ينفعونك، فلو اشتريتً أعبدًا جلدَة؟ قال: يا أبي؛ أني أريد غيرَ الذي تريد. ولما سأله النبيُّ ﷺ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، رضي الله عنه. وكان النبي ﷺ يحبه حبًّا عظيمًا، وقال: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ).
وكان النبيُّ ﷺ يغضب له، ويغار له، ويحزنه ما أحزن أبا بكر فقد كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : (أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ). أَيْ غَاضَبَ،.قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الخَبَرَ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. حتى خاف أبو بكر على عمرَ. وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. خشيةَ أنْ يقولَ في عمرَ شيئًا يضرُّه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : (هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ ومَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بهَا يومَ الْقِيَامَة وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ). فما أوذِي بعدها قطُّ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُ أَنَّا نُحِبُّ نبيك مُحَمَّدًا وخليله أبا بكر الصديق والفاروق عمر، اللهم إن نبيك ﷺ قال: ( المرء مع من أحب) اللهم فإنا نحب رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَنحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، ونرجو أن نكُونَ مَعَهُمْ بِحُبّنا إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ نعْمَلْ مِثْلَ أَعْمَالِهُمْ. فَاللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا بِهِمْ فِي جَنَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وحسن أولئك رفيقًا..
عباد الله صَلُّوا -رَحِمَكُمْ الله- عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ.
المرفقات
1765966059_إنه الصديق رضي الله عنه.docx
1765966060_إنه الصديق رضي الله عنه.pdf
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
عضو نشط.
تعديل التعليق