اجتماع وطن

هلال الهاجري
1447/03/25 - 2025/09/17 17:16PM

الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الأَوْطَانَ مُستَقَرًّا لِبَنِي الإِنْسَانِ، وَوَهَبَهُمْ فِيهَا الأَمْنَ وَالاطْمِئْنَانَ، وجَعلَ الأمنَ مقرونًا بالإيمانِ، فقَالَ سُبحانَه وتَعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الصادقُ المأمونُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه الذين قضوا بالحقِّ، وبهِ كَانوا يَعدلونَ، وسلمَ تَسليمًا كَثيراً، أما بَعدُ:

فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

مِنَ القَصَصِ الهَادِفَةِ التِي كَانَ يَقُصُّهَا الأَسلافُ، وَكَانَ لَهَا الأَثَرُ العَظِيمُ في الاجتِمَاعِ والائتِلافِ، هِيَ مَا يُروى أَنَّ رَجُلاً عِندَمَا أَشرفَ عَلى المَوتِ، استَدعَى أَبناءَه، ثُمَّ أَمرَهم بِإحضَارِ رِمَاحَهم مُجتَمِعَةً، وَطَلبَ مِنهُم أَن يَكسِرُوهَا، فَلم يَقدِرْ أَحدٌ مِنهُم عَلَى كَسرِها مُجتَمِعَةً، فَقَالَ لهم: فَرِّقُوهَا، وَلِيَتنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ رُمحَهُ ويَكسِرُهُ، فَكَسَرُوهَا دُونَ عَنَاءٍ كَبيرٍ، فَعِندَ ذَلِكَ قَالَ لهم: اعلَمُوا أنَّ مِثلَكُم مَثلُ هَذِهِ الرِّمَاحِ، فَمَا دُمتُم مُجتَمِعِينَ ومُؤتَلِفِينَ، يَعضُدُ بَعضُكُم بَعضَاً، لا يَنَالُ مِنكُم أَعدَاؤكُم غَرَضَاً، أَمَّا إذا اختَلَفتُم وتَفرَّقتُم، فإنِّه يَضعُفُ أَمرُكم، وَيَتَمَكَّنُ مِنكُم أَعدَاؤكُم، ويُصيبُكم مَا أَصَابَ الرِّمَاحَ، وَأَنشدَ قَائلاً:

كونُوا جميعَاً يا بَنِيَّ إِذا اعتَرى *** خَطْبٌ ولا تتفرقُوا آحادَا

تأبَى الرِّمَاحُ إِذا اجتمعْنَ تكسُّراً *** وإِذا افترقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا

ومِصدَاقُ هَذِهِ الوَصيَّةِ الطَّيبَةِ مَاَ جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى وسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلِيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وَقَالَ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أَيْ: تَضعُفَ قُوَّتُكُم، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شَيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا)، وَهَكَذا هُم أَهلُ الإسلامِ، فِي اجتِمَاعٍ وَمَحبَّةٍ وَسَلامٍ.

يَا أيُّها الأحبَّةُ .. في الوَقتِ الذي تَنزِفُ فيهِ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ الدِّماءَ، وَيَتَسلَّطُ عَليها في كُلِّ مَكانٍ الأعدَاءُ، نَحتَاجُ إلى الاعتِصَامِ بِحَبلِ اللهِ تَعَالى والائتِلافِ، وتَركِ الفَرقَةِ والنِّزاعِ والخِلافِ، فاعتَصِموا بِحَبلِ اللهِ جَميعاً ولا تَفَرَّقوا، وانصَحوا لِمَنْ وَلاهُ اللهُ أَمرَكم، وعَليكُم بِالجَمَاعةِ فَإنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَماعةِ، وحَافِظُوا عَلى الوَطَنِ، وتَعوذوا بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهرَ مِنها وَمَا بَطَنَ، واشكُروهُ عَلى نِعَمِهِ التي لا تُحصى، فَها أنتم تَستيقظونَ كُلَّ صَبَاحٍ في أَمنٍ وَخَيراتٍ، والعَالمُ مِن حَولِكم في انقِلاباتٍ واضطراباتٍ، وزلازلَ وأَعَاصيرَ وفَيَضاناتٍ.

فيا أهلَ الحَرَمِ، يا من كَفاكم اللهُ النِّقمَ، وأَسبغَ عَليكم النِّعمَ، انظروا حَولَكم، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)، واعلَموا أنَّهُ لا أَمنَ إلا بإيمانٍ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ ‌لَهُمُ ‌الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، ولا زِيادةَ إلا بِشُكرانٍ، (وَإِذْ ‌تَأَذَّنَ ‌رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، وإلا فالعَذابُ جَزاءُ الكُفرانِ، (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

كيفَ إذا كانَ هذا الوطنُ، فِيهِ بيتُ اللهِ عامرٌ تَهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ من كلِ مكانٍ، وهذا مسجدُ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ تُشدُ إليه الرِّحالُ في كلِ زمانٍ، أمنٌ وأمانٌ، وتحكيمٌ بشريعةِ الإيمانِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرُ الشركِ دَاحرةٌ، قد أخَذَتْ مُقدساتُه بقِطعةٍ من فؤادِ كلِّ مسلمٍ على وجهِ الأرضِ، يحبُّها، ويَغارُ لها، ويُدافعُ عنها، ويحزنُ لها، ويَتَمنى أن يَراها في أمنٍ واستقرارٍ، عامرةً بالحُجَّاجِ والمعتمرينَ والزُّوَّارِ.

وَطنٌ قَد خَرجَ مِنهُ الإيمانُ وانتشَرَ في كُلِّ مَكانٍ، وسيرجعُ ليَستقَرَّ فِيه إذا فَسَدَ الزَّمانُ، كما قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (إنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المَدِينَةِ -أي: سيرجعُ إلى المدينةِ- كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا).

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ هو الغنيُّ وعبادُه الفقراءُ، وهو القويُّ وخلقُه هم الضُّعفاءُ، وصلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه، والتَّابعينَ ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

الوطنُ .. لَيسَ خُطبةً مِنَ البُلَغاءِ، ولَيسَ قَصيدةً عَصمَاءَ، ولَيسَ نَشيداً أو أُغنيَّةً، ولَيسَ لوحةً فَنيَّةً، إنَّما هي قِصَّةٌ كَتَبَها التَّاريخُ بِدِماءِ المُجاهدينَ، وبِعَرقِ المُكَافِحينَ، وبِصَبرِ الأَوَلينَ، وبِدُعاءِ الصَّالحينَ، الوَطَنُ هو ماضينا وذكرياتُنا، هو حَاضرُنا وتَضحياتُنا، هو مُستقبلُنا وأمنياتُنا، فيهِ تَعلَّمنا الجُودَ والفَيضَ والعَطاءَ، وعَلى أرضِه تطيبُ المُبادرةُ والتَّضحيةُ والنَّماءُ، وله يَهونُ التَّعبُ والمَشقةُ والبِناءُ.

أيُّها الأحبَّةُ: هل الدُّنيا إلا أمنٌ في الوَطنِ، وعَافيةٌ في الجَسدِ، وكِفَايةٌ في الرِّزقِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ: (مَنْ أَصبَحَ مِنكُم آمنًا في سِربِهِ، مُعافًى في جَسَدِهِ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأنَّما حِيزتْ لَهُ الدُّنيا)، واسألوا الذينَ فَقَدوا الأوطانَ، وكَثُرتْ عَليهم الأحزانُ، فَهَا هُمْ يَتَحسَسونَ الأَخبارَ، وقَدْ طَالَ عَليهم الانتظارُ، فَالصَّغيرُ مُشتاقٌ إلى بُيوتِها وشِعابِها، والكَبيرُ يَتمَنى أن يُدفنَ في تُرابِها، فَالقُلوبُ تَتَقطَّعُ، والنَّفوسُ تَتَطَلَّعُ.

فَنريدُ شُكراً ودُعاءً صَادِقاً، دعوةً مِنَ الكبيرِ والصَّغيرِ، ودعوةً مِنَ المسكينِ والفقيرِ، ونريدُ دعوةَ العَجائزِ بصَلاحِ البلادِ وأمنِها وعِزِّها، وأن يوفِّقَ اللهُ قادتَها للهُدى، ويُصلحَ رجالَها ونساءَها، ويهديَ شبابَها وفتياتِها لكلِّ خيرٍ، كما جاءَ في الحديثِ: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ).

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ودمرْ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ آمنا في أوطانِنا وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، ووفِّقْ رِجَالَ وَطَنِنا، وأَبطالِ أَمنِنا، اللهم من أرادنا وأرادَ بلادَنا بسوءٍ فأشغله بنفسِه وردَّ كيدَه في نحرِه، اللهم ادفع عنا الغَلا والوَبا والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، اللهم وفق وليَ أمرِنا لهُداكَ واجعل عملَه في رِضاكَ، اللهم انصر به دينَك وأعلِ به كلمتَك، اللهم أصلح بطانَته واصرف عنه بطانةَ السوءِ ياربَّ العالمينَ، اللهمَّ الطُفْ بإخوانِنا المستضعفينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ كُنْ لَهم مُؤيدًا ونَصيرًا ومُعينًا وظَهيرًا، اللهمَّ اجعلْ لهم مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخرجًا، ومِنْ كُلِّ بَلاءٍ عَافيةً، اللهمَّ انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المرفقات

1758118553_اجتماع وطن.docx

1758118577_اجتماع وطن.pdf

المشاهدات 937 | التعليقات 0