الإجازة الصيفية بين النوم والجوال.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ السميعِ البصيرِ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، أحمدُهُ سبحانه حمدًا كثيرًا، وأشك على آلائِهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أما بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الحديد: [28].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وغيرُهُ مِنْ حَدِيثِ حَنْظَلَةَ الأُسَيْدِي رضيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كيفَ أَنْتَ يا حَنْظَلَةُ؟ قالَ: قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحَانَ اللهِ! ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هذا، فَانْطَلَقَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أخرجه مسلم (2750).
عِبَادَ اللهِ: مِنَ الْحَقَائِقِ المُسَلَّمَة أَنَّ الإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلى الرَّاحَةِ بَعْدَ الْكَدِّ والتَّعَبِ، وَإِلى الْهُدُوءِ والسَّكِينَةِ بَعْدَ الضَّجِيجِ والْقَلَقِ، فَالنُّفُوسُ تَمَلُّ، والقُلُوبُ تَكَلُّ، والإِسْلام بِعَظَمَتِهِ وشُمُولِيَّتِهِ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَكُونَ كُلّ كَلامهم ذِكْراً، ولا كُلّ شُرُودهم فِكْراً، ولا كُلّ أَوْقَاتِهِمْ عِبَادَةً بَلْ جَعَلَ لِلنَّفْسِ حَظًّا مِنَ التَّرْوِيحِ والترْفِيهِ المنْضَبِط بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْخَالِي مِنَ المُخَالَفَاتِ والمَحَاذِيرِ، قَالَ ﷺ: (ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أخرجه البخاري (6139).
عِبَادَ اللهِ: والإِجَازَةُ الصَّيْفِيَّة فُرْصَةٌ لِلْقُرْبِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَالإِقْبَالِ عَلَى القُرْآَنِ الْكَرِيمِ، وَفُرْصَةٌ كَذَلِكَ لِرَاحَةِ الْبَدَنِ، وَصَفَاءِ الذِّهْنِ، وَجَلاءِ الْقَلْبِ، وَتَنْمِيَةِ الْقُدُرَاتِ، واكْتِسَابِ المَهَارَاتِ، وَتَبَادُل الْخِبرَاتِ، وفُرْصَةٌ لِلتَّقَارُبِ والتَّوَاصُلِ، فَهِيَ بِحَقٍّ كَنْزٌ ثَمِينٌ قَالَ ﷺ: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ) وَذَكَرَ مِنْهَا: (وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ) أخرجه والحاكم (7846) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (355).
أيُّهَا المُؤْمِنُونَ: وَإِنَّ فَترَات الإِجَازَة سِلاحٌ ذُو حَدِّينِ، وَفَرَاغٌ فِكْرِيٌّ وَعَقْلِيٌّ وَذِهْنِيٌّ، وَفَتْرَةٌ قَصِيرَةٌ بِالْحِسَابِ الزَّمَنِيِّ، لَكِنَّهَا طَوْيلَةً بِحِسَابِ المَكَاسِبِ والخَسَائِرِ، لَوْ لَمْ يَشْغَلْهَا الإِنْسَانُ بِمَا يَنْفَعهُ فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أَرَى أَحَدَكُمْ فَارِغًا سَبَهْللًا لا فِي أَمْرِ دُنْيَا وَلا فِي أَمْرِ آَخِرَةٍ) أخرجه ابن أبي شيبة (8/153).
عِبَادَ اللهِ: وَمِنَ المفَاهِيمِ المُغْلُوطَةِ لَدَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الاعْتِقَاد بِأَنَّ الإِجَازَةَ فُرْصَةٌ لِلتَّحَلُّلِ مِنَ الْقُيُودِ، والخُرُوجِ مِن الضُّغُوطِ، فَيُفَرِّطُونَ في الْوَاجِبَاتِ، وَيَتَسَاهَلُونَ في السُّنَنِ والمَنْدُوبَاتِ، وَيُسْرِفُونَ في المُبَاحَاتِ، قَالَ ﷺ: (نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ) أخرجه البخاري (6412).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَإِنَّ مِنْ آَثَارِ هَذِهِ المفَاهِيمِ المغْلُوطَةِ مَا نَجِدهُ مِنْ بَعْضِ الأَبْنَاءِ في الإِجَازَةِ الصَّيْفِيَّةِ، مِنْ تَضْيِيعٍ للأَوْقَاتِ بَينَ سَاعَاتِ النَّوْمِ الطَّوِيلِ، فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ فَلا تَسَلْ مَتَى يَسْتَيْقِظْ؟ وَإِذَا أَمْسَكَ جَوَّالَهُ، فَلا تَدْرِي هَلْ سَيَتْرُكهُ أَمْ سَيُفْلِتهُ إِذَا غَشِيَهُ النَّوْمُ؟ وَبَيْنَ السَّهَرِ والْجَوَّالاتِ، ضَاعَتِ الصَّلَوَاتُ، وَأُهْدِرَتِ الأَوْقَات، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ.
عِبَادَ اللهِ: وَهُنَا تَأْتِي مَسْؤُولِيَّة الْوَالِدَيْنِ فِي تَوْجِيهِ الأَبْنَاءِ لاسْتِثْمَارِ أَوْقَاتِهِمْ، وَمِلْءِ فَرَاغِهِمْ، وَتَوْظِيفِ طَاقَاتِهِمْ، وَشَغْلِ إِجَازَتِهِمْ بِمَا يَنْفَعهُم فَالأَمَانَةُ عَظِيمَةٌ والمسْؤُولِيَّةُ جَسِيمَةٌ، قَالَ ﷺ: (كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ) أخرجه البخاري (5188) ومسلم (1829).
عِبَادَ اللهِ: وَأَفْضَلُ مَا تُسْتَثْمَرُ فِيهِ الإِجَازَات، وتَعْمُرُ بِهِ الأَوْقَات، الإِقْبَالُ عَلَى الْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ، حِفْظًا وَتَعَلُّمًا وَدِرَاسَةً وَتَدَبُّرًا فَفِيهِ قَوَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الأُولَى والآَخِرَة، قَالَ ﷺ: ( إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتابِ أَقْوامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ) أخرجه مسلم (718).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَفِي بِلادِنَا المُبَارَكَة، تُنَظِّمُ جَمْعِيَّات تَحْفِيظِ الْقُرْآَنِ الدَّوَرَاتِ الصَّيْفِيَّةِ لِحِفْظِ وَمُرَاجَعَةِ الْقُرْآَنِ الكَرِيمِ لِجَمِيعِ الْفِئَاتِ، حُضُوريًا بِالمَسَاجِدِ والْجَوَامِعِ، والدُّورِ النِّسَائِيَّةِ، وَعَنْ بُعْدٍ عَبرَ مِنَصَّاتِهَا المُعْتَمَدَة، وذِلِكَ لاسْتِقْطَابِ أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا، وَتَحَلُّقِهِمْ حَوْلَ الْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ؛ لِيَنْهَلُوا مِنْ آَدَابِهِ، ويَغْنَمُوا مِنْ بَرَكَتِهِ، وَيَظْفَرُوا بِهِدَايَتِهِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الكهف: [10]. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاُكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآَيَاتِ والذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على فضلهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا أنّ مِنْ أَفْضَلِ مَا تُسْتَثْمَرُ فِيهِ الأَوْقَاتُ المُشَارَكَةُ في المَنَاشِطِ الاجْتِمَاعِيَّةِ والتَّطَوُّعِيَّةِ الَّتِي تُنَظِّمُهَا الْجَمْعِيَّات المُخْتَلِفَة فِي مُحَافَظَتِنَا لِخِدْمَةِ المُجْتَمَعِ والرُّقِيِّ بِأَفْرَادِهِ، وَتَطْوِيرِ مُؤَسَّسَاتِهِ
وَخِتَامًا: أَيُّهَا الشَّبَابُ والْفَتَيَات: اعْلَمُوا أنَّكُمْ ثَرْوَةُ هَذِهِ الْبِلاد، وَوَقُودُ مسيرها، وَمَصْدَرُ طَاقَتِهَا، وَدَلِيلُ نَهْضَتِهَا، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ حَفِظَ وَقْتَهُ، وَاسْتَفَادَ مِنْ سَنِيَّ عُمْرِهِ، وَقَدَّرَ الشَّبَابَ حَقَّ قَدْرِهِ، فَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَسَارَعَ لِلْعَلْيَاءِ بِهِمَّةٍ وَدَأَبٍ، وَمَنْ فَرَّطَ وَسَوَّفَ، وَقَصَّرَ وَأَجَّلَ، فَهَذَا بِحَقٍّ غَبنٌ وَاضِحٌ، وَمَحْقٌ بَيِّنٌ. أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْمُرَ أَوْقَاتَنَا بِطَاعَتِهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَجنودنا، والمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. الجمعة 23 /1 /1447هـ