الافتراء على الله
الشيخ د عصام بن عبدالمحسن الحميدان
بسم الله الرحمن الرحيم
الافتراء على الله -تعالى-
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
عباد الله: الكذب من صفات المنافقين، وهو من كبائر الذنوب، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبغض هذه الصفة بغضاً شديداً، فلم تكن صفةٌ أبغضَ إليه منها؛ ففي سنن الترمذي بسند حسن عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً".
وأعظم أنواع الكذب تحريماً وأشدها جرماً الكذب على الله -تعال- بالقول عليه بغير علم؛ فهذا من أنكر المنكرات، وأكبر المحرمات، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)، وقال سبحانه: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ).
وقال عز وجل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
وقال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
وقال الله -تعالى-: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ).
وقال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ).
فلا يجوز لمسلم أن يقول في دعوة، أو فتوى، أو تدريس، أو غيره، أن يقول على الله ما لا يعلم، ولهذا كان السَّلف من العلماء، وكذا العظماء من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، إذا سُئِل أحدهم عن شيء لا يعلمه يقول: لا أدري، وكان أحدهم إذا أراد أن يحدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغيّر لونه، هيبةً أن يقول عليه ما لم يقله.
وقال أبوبكر الصديق -رضي الله عنه-: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى».
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون».
وسأل رجلٌ ابن عمر -رضي الله عنهما- عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته؛ فقال له: يرحمك الله! أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله -تعالى- ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا -رحمك الله- حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به».
ومن صور الكذب على الله -تعالى- تحليل ما حرَّم الله -تعالى-، أو تحريم ما أحلَّ الله -تعالى-؛ قال الله -تعالى-: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ).
معاشر المسلمين: اعملوا أن كل من حرّم حلالاً أو حلّل حراماً فاتبعه الناس فكل آثامهم عليه لا عليهم؛ كمن أفتى بحل الربا المعاصر، وأكل لحوم الخنازير النظيفة، واستباحة دماء المسلمين المخالفين وتكفيرهم، وإباحة زواج المسلمة بالكافر، وجواز إرضاع الموظفين ليحرموا على زميلاتهم، وعدم اعتبار الأوراق النقدية المعاصرة نقوداً شرعية، فانظروا كيف تكون الطامّة عندما يتبع المسلمون هذه الفتاوى، وكيف يقف هذا المفتي بين يدي الله سبحانه، وهو موقّعٌ عن الله، شرّفه الله بحمل رسالته، ثم يلعب بها كيف يشاء.
ومن الكذب على الله قول المشركين لا يبعث الله من يموت، وقولهم ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، وقولهم اتخذ الله ولداً، وقولهم إنما نحن مصلحون، وقالوا إنما البيع مثل الربا.
وقول اليهود يد الله مغلولة، وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، وقول النصارى المسيح ابن الله، وقالوا إن الله ثالث ثلاثة.
وهكذا يتواطأ أهل الكفر قديماً وحديثاً على الكذب على الله -سبحانه-، والافتراء عليه، ويجدون من الدهماء من يقلّدهم.
أيها الناس: ومن صور الكذب على الله الزعم بأن الله يشاركه أحد في الخلق، والرزق، والتدبير، أو النفع، والضر، وأن بعض الأولياء يملكون النفع والضر من دون الله، وأن عندهم أسرار الوحي لا يعلمها إلا هم، أو أن آل البيت النبوي بيدهم تصريف هذا الكون، وتحت تصرفهم الجنة والنار.
ومن الكذب على الله الكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله الله؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وقال عليٌ -رضي الله عنه-: "لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل"(رواه البخاري).
وروى أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ جَالِسَاً فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ؛ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه- فَزِعَاً، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَفْزَعَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثَاً، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ قُلْتُ: قَدْ جِئْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثَاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ»؛ قَالَ: لَتَأْتِيَنَّ عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ؛ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ فَشَهِدَ لَهُ.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه..
عباد الله: إن الله -تعالى- أعطانا العقل الذي نميّز به بين الحق والباطل؛ قال الله -تعالى-(أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، ونعمة العقل يجب أن تستخدم في محلّها الصحيح؛ لذا حرّم الله -تعالى- كل ما يذهب العقل، لأن الحفاظ عليه من الضرورات الشرعية الخمس؛ فإذا رأى المسلم المستسلم للحق أو سمع ما يخالف العقل السديد السليم فيجب أن يرفضه إذا لم يكن في ذلك نص؛ لأنه لا يمكن أن يتعارض صحيح المنقول مع صريح المعقول؛ فمثلاً كيف يقبل عقل بعض الناس بأن تكون النجاسات مثلاً مصدراً للبركة! أو أن يكون قراءة كتاب كتبه دجّال أفضل من قراءة القرآن! أو يحرم أكل السمبوسة لشكلها الثلاثي! أو تحريم قراءة بعض سور القرآن! هل هذه أمور تحتاج لعلم شرعي أم إلى عقل؟
ولذلك يحرص الكذبة على الله -تعالى- من الكفّار والمسلمين على إغلاق أدمغة الناس حتى لا يفضحوهم ويتفرقوا عنهم، فيحرّمون عليهم التفكير، والاجتهاد، ويلزمونهم بالتقليد والتبعية لهم، حتى يقولوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).
وأكثر من يفعل ذلك المشاهير الذين يعجب الناس بهم لفصاحتهم أو قوة حجتهم أو كثرة أموالهم أو غريب مواقفهم، والشهرة للرجل ليست دليلاً على العصمة، وربّ مشهور ضلّ فأضلّ الملايين؛ فالرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، كما قال علي -رضي الله عنه-، وقد يكون الحق مع المغمور لا مع المشهور، ولو كان الحق مع الشهرة لكان الأحق بالرسالة أبو سفيان أو أبو جهل؛ كما قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ لكن الله -تعالى- أنزل رسالته على الأعقل الأنزه الأنظف محمد -صلى الله عليه وسلم- .
اتقوا الله -عباد الله- ولا تقولوا على الله إلا الحق، وتعلّموا قبل أن تتكلموا، وتثبّتوا قبل أن تُفتوا، فإن الكلمة في الدين أمانة، ومن قال في دين الله برأيه فقد عرّض نفسه لسخط الله.
اللهم طهّر ألسنتنا من الكذب والافتراء، واملأ قلوبنا هيبةً من مقامك، وألهمنا القول الحق والعمل الصالح، واجعلنا من الهداة المهتدين غير الضالين ولا المضلين.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
المرفقات
1762215116_الافتراء-على-الله_1.pdf
1762227783_الافتراء على الله.docx