الذكاء الاصطناعي فرص ومخاطر.
أسامة بن سعود عبد الله التميمي
1447/01/28 - 2025/07/23 22:13PM
الذكاء الاصطناعي... فرصٌ ومخاطر
- الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، وسخَّرَ له ما في السماواتِ وما في الأرضِ جميعًا منه، أحمدُهُ سبحانه وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيُّها الناس:
أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله تعالى، فإنها وصيَّتُه للأوَّلينَ والآخرين، قال جلَّ وعلا:
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
عبادَ اللهِ...
ما أكثرَ نعمَ اللهِ علينا، وما أعظمَ فضلَهُ علينا! نِعَمٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى، منها ما نراه ونعيشه، ومنها ما يغيبُ عن إدراكنا...
ومن أعظمِ النِّعَمِ في هذا العصر: نعمةُ التعليمِ والتقنية، ومنها تقنياتُ الذكاءِ الاصطناعي، التي باتت تدخل في التعليم، والطب، والتجارة، وخدمة الدين والدعوة، قال الله تعالى:
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾.
فمن شكرِ النِّعَمِ أن نستخدمَ هذه الوسائلَ فيما يُرضي الله، وفيما ينفعُ الناس، لا أن نجعلَها وسيلةً للفسادِ والإفساد، قال تعالى:
﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
أيها المؤمنون...
لقدِ انفتحَ علينا عصرٌ جديد، فيه خيرٌ كثير، لكنه لا يخلو من شرٍّ وفتنة.
فكما يُستخدم الذكاءُ الاصطناعي في خدمة القرآن، وتعليم الناس، وسرعة إنجاز الأعمال، فقد يُستخدم أيضًا في تزييف الحقائق، وانتحال الشخصيّات، وتشويه السُّمعة، ونشر الفتاوى الكاذبة على ألسنة العلماء!
وهذا كلُّه من البهتانِ العظيم، وقد قال الله تعالى:
﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
بل قد ترى اليوم صورةً لرجلٍ يُقالُ: ارتكب كذا، أو مقطعًا مفبركًا، أو صوتًا مزوّرًا… وليس له في الأمر ناقة ولا جمل!
وهذا من أعظم الظلم... أترضاها لنفسك؟ فلا ترضها لغيرك، فتثبّت يرحمك الله، ولا تنشر كلّ ما يصل إليك.
عباد الله...
إن وسائل التقنية الحديثة سريعةُ الانتشار، لكنَّ المسلم مسؤولٌ عمّا يقول وينشر،
قال رسول الله ﷺ:
"كفى بالمرءِ كذبًا أن يُحدّث بكل ما سمع."
فكم من خبرٍ كاذبٍ أشعل فتنةً مزّقت أوطانًا، وكم من إشاعةٍ أحرقت بيوتًا وأُسرًا ومجتمعات!
فلا تكن سببًا في نشر الفتن والأكاذيب، ولا تكن أداةً في يدِ مَن يُضلِّل الناس ويشوّه الحقائق.
أيها المسلمون...
إن الكذبَ والافتراءَ ونشرَ الأخبار المضلّلة ليست أخطاءً بسيطة، بل قد تكون سببًا في هلاك صاحبها،
قال رسول الله ﷺ:
"من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه؛ أسكنه الله رَدغة الخبال حتى يخرج مما قال."
فاحذر أيها المسلم أن تظلم أحدًا بكلمةٍ، أو صورةٍ، أو صوتٍ، أو تغريدة، فإنها قد تذهب بعيدًا، لكنها عند الله مسجَّلة محفوظة، وسيُسألك الله عنها!
عباد الله...
ما أحوجَنا اليوم إلى وعيٍ تقنيٍّ إيماني، يجمعُ بين استثمارِ النعم واتقاءِ الفتن،
نعلّم أبناءنا كيف يستخدمون هذه التقنيات في الخير، لا في الشر،
نوظّفها في حفظ القرآن، وتعلُّم العلم، وخدمة المجتمع، لا في الشائعات والمهاترات والكذب والعداوات.
وحديثنا عن أضرار الذكاء الاصطناعي والدجل المتعلق به، يجعلنا نتذكّر أخطر فتنة، والتي نتعوذ بالله منها في كل صلاة: فتنة المسيح الدجّال.
فخطر الذكاء الاصطناعي يُشبه فتنة المسيح الدجال من جهة انبهار الناس بالخوارق والتقنيات المدهشة التي تقلب الحقائق وتُضلّل العقول. فكلاهما يُستخدم لتزييف الواقع وخداع الناس، ويُشكّل فتنةً عظيمة لمن ضعف إيمانه ولم يتحصن بالعلم الشرعي والوعي الإيماني.
فاللهم أعذنا من فتنة المسيح الدجال، وأعذنا من فتنة كل دجّال، وعافِنا واحفَظنا.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
---
الخطبة الثانية: بين القلق من الذكاء الاصطناعي وحقيقة الرزق
الحمدُ للهِ على نِعَمِهِ الظاهرةِ والباطنة، والشكرُ لهُ على آلائِهِ المُتتابعة، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أيها المسلمون...
في الآونة الأخيرة، يروج في وسائل التواصل بين حينٍ وآخر أخبارٌ تتحدّث عن خطورة الذكاء الاصطناعي على الوظائف، وأن ما يقرب من ستين في المئة من وظائف العالم معرّضةٌ للخطر، وأن ما بين أربعمئة إلى ثمانمئة مليون وظيفة مهدَّدة بالزوال!
مثل هذا الخبر قد يُثير الخوف والهلع في القلوب...
لكن وقعه يختلف باختلاف العقيدة والمرجعية.
فالمؤمن إذا سمع هذا الخبر لم يضطرب، ولم يجزع، بل تثبّت واطمأنّ، مستندًا إلى قول الله تعالى:
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22]
رِزقُك مكتوبٌ عند الله، لا يُنقِصُه تطوّر، ولا يحجبه ذكاءٌ اصطناعي، ولا يتقدّم ولا يتأخّر عن وقته.
وقد علّمنا النبي ﷺ قاعدةً عظيمةً في التعامل مع تقلبات الدنيا، فقال:
"عَجَبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سرّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر، فكان خيرًا له." (رواه مسلم)
هذه هي عظمةُ الإيمان...
الذي يجعل من التغيُّر محفزًا لا مَهلَكة، ومن التحدّيات بواباتٍ للأمل، لا للهزيمة.
وإذا نظرنا إلى التاريخ القريب، نجد أن التغييرات التقنية الكبرى تسبّبت في فقدان وظائف، لكنها فتحت أبوابًا جديدة لم تكن تخطر على البال.
فحين جاءت الطفرة الصناعية، فقد كثيرٌ من الناس أعمالَهم في الزراعة، لكنهم وجدوا فرصًا في المصانع والخدمات.
وتحكي بعض الأمهات قديمًا أنها كانت تشكو من بُعد الحطب وصعوبة الحصول عليه، وتتساءل: "كيف سيكون الحال في زمن أحفادنا؟" فجاءت الكهرباء، فصار الحطب في طي النسيان!
فكذلك اليوم... قد يُقلقنا الذكاء الاصطناعي، لكنه قد يكون رحمةً خفيّة، وبدايةً لفرصٍ أعظم لا يعلمها إلا الله.
أيها الأحبة...
الرزق ليس مربوطًا بوظيفة أو شهادة أو تقنية، بل هو مربوطٌ بربّ العالمين، الرزّاقِ ذي القوة المتين.
فالمؤمن يعلم أن الله تكفّل بأرزاق العباد، وما عليهم إلا أن يسعَوا في طلبه بالحلال، ويوقنوا أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها.
فاطمئنوا يا عباد الله...
واعملوا، وثِقوا، وخذوا بالأسباب، واستودعوا نتائجكم عند الرزاق العليم، ولا تنسوا قول النبي ﷺ:
"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكّله، لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِماصًا وتروح بطانًا." (رواه الترمذي)
اللهم ارزقنا حسن التوكل عليك، ويسّر لنا أرزاقنا، واحمِنا من القلق على ما قد تكفلتَ به يا أكرم الأكرمين.
---
هذا وصلُّوا وسلّموا على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم عجّل بالفرج للمستضعفين من المؤمنين في فلسطين والسودان، أطعم جائعهم، وآمِن خائفهم، واكسُ عاريهم، وارحم ضعفهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك، وأيّدهم بتأييدك، وأعزّ بهم دينك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفّقهم لهُداك، واجعل عملهم في رضاك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلّهم على الخير وتعينهم عليه.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا ووفقنا لاجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضلّ. اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
اللهم آمِن حدودنا، واحفظ جنودنا، واغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.