الشافي
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
الخطبة الأولى
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مل السموات وملء الآرض ومل ما بينهما، ومل ما شاء ربنا بعد. أحمده حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ... ) أما بعد ..
المرض بليةٌ كبرى تُبتلى بها غطرسةُ البشر، ذبولٌ مفاجئ يفقِد فيه الإنسانُ ازدهارَه
نكسةٌ لحيويّة ذلك الهَلوعِ المنَوع، قدّر الله سبحانه وتعالى على هذا الجسد أن تنطفئ نضارتُه مؤقتاً، حتى يعرف الإنسان ضعفَه، وبأنّه لا حولَ له ولا قوّة.
قدّر الله المرضَ على الإنسان حتى يتذكر شيئًا أشبهَ ما يكونُ بهذا المرض إنه الموت، فكما أن المرضَ نهايةُ الحيوية فكذلك الموتُ نهاية الحياة ..
وبينما يستلقي ذلك الجسدُ المنهك على سرير المرض ينظر إلى الداخلين إليه والخارجين من عنده وهم يحملون على رؤوسهم تيجان الصحّة والعافية بينما يحدث ذلك يتذكرُ عظمَ نعمة العافيةِ التي كان متمتعًا بها دهرًا طويلًا ولم يعرف قيمتها. فلولا المرضُ ما عرفنا قيمة العافية
وإذا أخذ المرض مداه واغتسلت روحك بمعانيه يأذن الشافي سبحانه للداء بالانصراف عن جسدك .. ويأمر الصحةَ أن تعاودَ سيرتها الأولى .. فإذا باللون الورديّ يتصعّد على وجنتيك .. وتعود الابتسامة التي أذبلتها أيامُ البلاء..لأنّ الله وحده الشافي : يشفيك بسبب ويشفيك بأضعف سبب ويشفيك بأغرب سبب ويشفيك بما يرُى أنّه ليس بسبب ويشفيك بلا سبب !
يشفي بالأعشاب .. ويشفي بالأدوية المركّبة والمفردة .. ويشفي بالغذاء .. ويشفي بالماء ..
فلعلّك مصاب بمرض .. وأنت لا تدري .. وتأكل الطعامَ الذي فيه شفاؤك وأنت لا تدري .. تمرض ويشفيك وأنت لم تعلم أصلا بمرضك ولا بشفائك !!
وقد يضع سبحانه شفاءه في الماء .. وكلّنا يحفظ " ماء زمزم لما شرب له" وهو " طعام طُعم وشفاء سُقم " .. وكم من مريض أضناه المرض فأدمن شرب هذا الماء المبارك فبرئ بإذن الله ..
وهو سبحانه : يشفي بالصبر .. يشفي بالدعاء .. ويشفي بالصدقة .. ويشفي بالاستغفار .. ويشفي بالتوبة .. ويشفي بالرضا .. ويشفي بلا شيء ..
يقول أحدهم : دخل علينا في مكتبنا في المستشفى والهلعُ ينسجُ على وجهه ضبابةً قاتمةً اللون .. افتقدنا في تلك اللحظةِ ابتسامتَه الأليفة .. سألناه .. فإذا به يحكي لنا عن أنّ ابنه منوّم في الدور العلوي .. لقد وقع عليه حادثٌ وفقد بسببه بصره ..
يا لهولِ فجيعتنا .. فكيف بفجيعة قلب هذا الأب ..قال وبرجاء : أريد من أحدكم أن يقوم معي ويرقي ابني .. علّ الله أن يشفيه ..نهض صاحبي على الفور وذهب معه ..
بعد ساعة عاد صاحبي وأخبرني أنّه رقاه ثم أمسك بالأب وصبّره وأخبره بحديث " داووا مرضاكم بالصدقة" _. قال فأخرج الأب من جيبه مبلغًا من المال وقال له تصدّق بها بنيّة الشفاء عن ابني .. بعد يومين دخل الأب بوجه آخر وطلب من صاحبي مرافقته .. عاد صاحبي بعد نصف ساعة تقريباً متهللا وقال : أبشّرك .. صار يرى شيئا من نور الغرفة ..
ثم أعطاه الأب ألف ريال ليتصدق بها .. كان ذلك اليوم نهاية الأسبوع ..
يوم السبت .. دخل الأب على غرفة ابنه ووجد أن بصره ابنه قد عاد تمامًا كأن ليس به بأس، من الذي شفاه ؟ من الذي كتب لعينيه الحياة .. من الذي أعاد ذلك الضياء إلى مقلتيه ؟ "إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" ..
سبحانه قال لبصره عد .. فعاد البصر ..لا يريد منك سوى العودةَ إليه .. أن تتلمّس الطريق َالمؤديةَ إليه ..عد إليه بالرضا .. عد إليه بالسجود .. عد إليه بالتوبة .. عد إليه بالاستغفار.. عد إليه بالصدقة .. عد إليه بالاعتراف ..
اطرق بابه بأي وسيلة كانت .. المهم أن تعود .. ثم ارتقب الشفاء ..
ووالله ليس هناك مستشفى في الدنيا تداويك إذا لم يشأ الله لها ذلك ..
ليس هناك طبيب في العالم يستطيع أن يشخّص مرضك .. إلا إذا أراد الله ذلك ..
أحد الأثرياء مصاب بالفشل الكلوي يسافر به أبناؤه إلى بلد عربية لزراعة كلية ..
اتفق الأبناء مع أهل فتاة صغيرة في السن على مبلغ مئةِ ألف ريال سعودي ثمناً لكليتها ..
وفي الصباح كان الجميع في المستشفى .. طلب الرجلُ قُبيل العمليةِ اللقاءَ بالفتاة التي قررت بيع كليتها له .. دخلت إليه في ضعف وانكسار .. فسألها : ما الذي دعاك إلى أن تبيعي كليتك لشيخ كبير مثلي ؟ فقالت : الحاجة .. أسرتي فقيرة .. وإخوتي في الجامعة .. يجب علي أن أفعل شيئا لأساعدهم !!هو ثري لم يسمع في حياته بالحاجة هذه .. كأنّها صفعته .. أيقظته من سبات .. نسي معها احتقاناتِ الدم الفاسد في جسده ..تساءل في نفسه : أيُعقل أن يستغنيَ إنسانٌ عن جزء من جسمه .. عن قدْر من حياته لأجل أن يأكل .. أن يعيش ..
طلب للفور أبناءه .. دخلوا عليه فأمرهم أن يعودوا به إلى بلاده فقد ألغى فكرة الزراعة ..
وأخبرهم أن هذا المبلغ صدقة منه للفتاة .. لا يأخذوا منه ريالا ..
وبعد مقاومة من أبنائه .. وغضب من بعضهم إذ بهم يرضخون لرغبة أبيهم ..
وبعد عودته إلى بلاده يذهب إلى المستشفى كالعادة للغسيل ، وفي فحص روتيني يكتشف الأطباء وبذهول أن كليته الفاشلة عادت للعمل !
قدرةُ ملكِ الملوك على الشفاء لا تحتاج إلى مبضع جرّاح .. إنّه الملك الذي ينظر من علياء ملكه: فيشفي مريضًا، ويواسي مكروبا، ويعيد مسافرا، ويبرئ جريحاً ( كل يوم هو في شأن).
يمرضك لتعود إليه فإذا عدت إليه رفع المرضَ إذ أنه لم يعد للمرض حاجة
يمرضك لتتواضع فإذا تواضعت وتذللت رفع عنك المرض لأنه لم يعد له حاجة
يمرضك لتشعر بالآخرين فإذا شعرت بهم رفع عنك المرض لأنه لم يعد له حاجة
يمرضك ليختبر صبرك ورضاك فإذا صبرت ورضيت رفع المرض لأنه لم يعد له حاجة
إنه الشافي الذي لن تحتاجَ إذا أردت الدخول عليه إلى موعد مسبق ، وبطاقةٍ تؤهلك للعلاج ، وأن تأتي قبل الموعد بنصف ساعة على الأقل هو الله !
فقط قل : يا الله .. فإذا بأعظمِ مشفًى إلهي يفتح أبوابه .. إنّه مشفى الرحمةِ الإلهية والقدرةِ الربانية .
الخطبة الثانية .
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له تعظيماً لشأنه والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه . هذا هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام .. الذي جاء ربّه بقلب سليم .. سليم من أي ذرّة شرك، يقولها عليه الصلاة والسلام لنفهم الدرس ولا نلتجئ إلا للحي الذي لا يموت : " وإذا مرضت فهو يشفين" .. هو وحده .. ضع نقطةً هنا .. لن تحتاج إلى غيره إذا أراد شفاءك .. يرضّ الجدريّ نبي الله أيوب عليه السلام .. تتشتت أسرته .. تتبعثر أملاكه .. أفضل الناس تفاؤلا يفقد الأملَ في شفائه .. وهو صابر محتسب .. تشتعل الأسقامُ في جسده وهو منكّس الرأسِ لمولاه ..وبعد سنوات البلاء .. تخرج من شفتيه شبه دعوة .. ليست دعوةً كاملة .. إنّها زفرة حيية يقولها العارف بربّه .." أنّي مسّني الضر .. وأنت أرحم الراحمين" ..
فإذا بأبواب السماء تنفتح بالرحمة ..وإذا بالأوامر العليا تنزل من فوق السماء السابعة لأجل ذلك المهموم المكروب ..انتهت فجأة سنين الآهات .. ليأتي عهد الشفاء ..
لماذا تذهب إلى غيره ؟ لماذا تلتجئ إلى سواه ؟ لماذا تثق بكل هؤلاء الموتى الذين يتحرّكون حولك وتنسى الحيَ الذي لا يموت .. من الذي خدعك وأقنعك أن الشفاء قد يأتي من طريق آخر ؟ قد يكون الدواء أقرب إليك مما تظن .. فها هو أيوب عليه السلام يُؤمر أن يضرب برجله الأرض " هذا مغتسل بارد وشراب" .. لقد كان الدواء بالقرب منه .. لم يكن ينقصه إلا مشيئة الله حتى تكتمل أسباب الشفاء، فلما شاء الله علَّم أيوبَ مكانَ الدواءِ فنجعَ الدواءُ بإذنه سبحانه .. أنت لا تحتاج إلى أن تحجز إلى الخارج .. فدواؤك إن شاء اللهُ قريب .. فقط احجز لقلبك رحلة إلى قارّة الرضا .. إذا رضيت عن الله أرضاك الله ..
المرض من أقسى اختبارات الرضا .. فإذا كانت إجاباتك في هذا الاختبار راضية .. كانت النتيجة مُرضية بإذن الله .. قل من بين آهاتك " رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا " .. قلها بقلبك .. بل روّض قلبك على الرضوخ لمعناها .. بل اغسله بها غسلاً .. اجعله يعيشُ الرضا ويتلذذُ به .. اجعل المرضَ بدايةَ عهدٍ جديد ..
تتعرّف فيه إلى ربّك من خلال اسمه الشافي .. أليس قد مرضت كثيرا في حياتك ؟ من شفاك ؟ لماذا تظن أن هذا المرضَ بالذات يُعجزه ؟ هذا الظن وهذا الإحساس يستحق العقوبة منه .. وقد يكون مرضك عقوبة لاعتقادك المريض .. انفَُض المرض عن قلبك أولاً .. ثم التجئ بالشافي إلى الشافي يشفيك
كل هؤلاء المرضى في المستشفيات ينتظرون الإذن لهم بالشفاء من الشافي سبحانه ..
ليس هناك آهةٌُ إلا ويسمعها .. ولا ألمٌ إلا ويعلم موضعه ..ولا زفرةٌ إلا ويرى نيرانها في الفؤاد
ثم إذا ما تمّ مراده .. ونزفت عبر آهاتك أنهارُ الذنوب .. أمر سبحانه العافية أن تعود فإذا بك تمشي في أرض الله وقد اغتسلت من الذنوب .. فما عليك إلا أن تُشيّد في قلبك مشفى التذلل والدعاء وتعقد موعداً مع السجود ..وتسجّل في قلبك اسمًا واحداً : وهو اسم الله الشافي..
المرفقات
1759296625_��خطبة الشافي�.pdf
1759296626_��خطبة الشافي�.docx