الغضب وعلاجه
أحمد بن علي الغامدي
أما بعد : فإن من وَصَايَا النبيِ صلى الله عليه وسلم العظيمةِ ما جاء في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، فقَالَ له: "لَا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ الرجل مِرَارًا وهو يقول: أوصنى،أوصني والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على قوله: "لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيّ في الصحيح .
عباد الله : لقد أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَاعْتَنَوْا بِهِ عِنَايَةً فائقةً، وَجَعَلُوهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَنْتَخِبُونَهَا لِلْمُدَارَسَةِ، بل اسْتَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ فَائِدَةً؛ مَعَ أَنَّ أَحْرُفَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهِ لَا تَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ أَحْرُفٍ.وقد جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الصحابيَ ( الذي روى الحديث)قَالَ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ ".
عِبادَ اللهِ: الغَضَبُ جَمْرَةٌ تَحْرِقُ قَلْبَ المرْءِ، وَقد تُفْسِدُ عليه دِيِنَهُ أو دُنْياهُ؛ لأنّ الغضوب يخْرُجُ عَنْ حالِهِ السَّوِيَّةِ صُوُرةً وَمَعْنًى، ظاهرًا وَباطِنًا، فيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَتَنْتَفِخُ أَوْداجُهُ، وَتَضَّطَرَبُ حَركاتُهُ، وَلا تَنْتَظِمُ كَلِماتُهُ. بل قد يؤولُ الغضبُ ببعضِ الناس إلى تغطيةِ عَقَلِه بالكلية ، وَيحَوُلُ بَيْنَه وَبَيْنَ الرُّشْدِ ،فَيَعْمَىَ عَنِ الهُدَىَ؛ وَلهذا قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ ». رواه البخاري في الصحيح
عِبادَ اللهُ: إِنَّ مِمَّا يُعيِنُ الإِنْسانَ عَلَىَ الأَخْذِ بِوَصِيَّةِ النَّبِّي - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله :«لا تغضب» أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ القُوَّةَ الحَقيِقِيَّةَ لَيْسَتْ في إِمْضاءِ الغَضَبِ وَلا في الانْتِقامِ وَلا في الاسْتِجابَةِ لِداعيِ فَورانِ الدَّمِ وَغَلَيانِ القَلْبِ، بَلْ إنّ القَوَّةَ الحَقيِقِيَّةَ هي أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَكَ في قَوْلِكَ ،وَفي عَمَلِكَ ،وفي تَصَرُّفِكَ وَفيما يَصْدُرُ عَنْكَ حالَ غَضَبِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ القُوَّةُ ، وَهُوَ الشِّدَّةُ الَّتيِ وَصَفَها رَسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» يَعْنِيِ :لَيْسَ الشَّدِيدُ الَّذيِ يَصْرعُ غَيْرَهُ في الغَضَبِ أَوْ غَيْرِهِ :"إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" .
عباد الله : لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ أُمُورٍ نَدْفَعُ بِهَا الْغَضَبَ الْمَذْمُومَ، فَمِنْهَا وَمِنْ أَعْظَمِهَا: التَّعَوُّذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ حِينَ الْغَضَبِ، فَهُوَ عِلَاجٌ يُرشدنا إلى أهميةِ الِاعْتِصَامِ وَالِاسْتِجَارَةِ بِاللهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَطَلَبِ الْحِمَايَةِ مِنْ هَذَا الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَنَا أجمعين عَلَى النَّجَاةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ شَرِّهِ إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ ، وَاللهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَخْذُلَ مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ.وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمامُ مسلم : أنّ رَجُلَينِ اسْتَبَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ:(أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ. رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آنِفًا؟ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ:( أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجْنُونًا تَرَانِي" .
فهٰذَا الرَّجُلُ جَهِلَ عَظِيمَ فَائِدَةِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَظَنَّ أَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَوُّذِ إِنَّمَا هُوَ الْمَجْنُونُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
ومنَ الأسبابِ المهدِّئةِ للغضبِ: جلوسُ الغضبان إنْ كانَ قائمًا، فإنْ أجْدى ذلكَ، وإلا فليضطجعْ؛ يقول صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» رواه الإمام أحمد وأبو داوود
ومنَ الأسبابِ المهدِّئةِ للغضبِ: السكوتُ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ ، إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ، إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ".قالها صلى اللهُ عليهِ وسلم ثلاثًا .رواه الإمام أحمد ، فهذا دواءٌ عظيمٌ للغضبِ؛ لأنَّ الغضبانَ قد يَصدُرُ منهُ منَ القولِ ما يَندَمُ عليهِ في حالِ زوالِ غضبهِ فإذا سكتَ. زالَ عنهُ ذلك.
ومنْ أسبابِ علاج الغضبِ: مصاحبةُ أهلِ الحِلمِ، فلهمْ أثرٌ فيمنْ يخالطُهمْ فإنه سيستفيدُ منْ حسنِ صفاتهمْ، ويحاولُ أنْ يجاريَهَمْ في حُسنِ أخلاقِهم. يقول صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ » رواه الطبراني وحسنهُ الألبانيُّ .
عباد الله : بارك الله لي ولكم
أما بعد: فإنّ منَ أسبابِ دفعِ الغضبِ ورفعِه: أَنْ يَتَفَكَّرَ الْغَضْبَانُ فِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَالِاحْتِمَالِ، فَإنّ ذلك سيَحْجِزُهُ عَنِ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، إذْ إِنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ وَدَفْعَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ.قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
عباد الله : لَيْسَ الشَّأْنُ وَالْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ فِي أَنْ تَكْظِمَ غَيْظَكَ وَتَسِيطِرَ عَلَى غَضَبِكَ إِذَا أَهَانَكَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْكَ، أَوْ مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْكَ مَنْصِبًا، أَوْ أَعْلَى مِنْكَ وِلَايَةً، إِنَّمَا الشَّأْنُ وَالْفَضْلُ عِنْدَمَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَنْتَقِمَ ،وأَنْ يَسُبَّ، وَأَنْ يُخْرِجَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ غَضَبٍ عَلَى مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَأَقَلُّ شَأْنًا، وَمَعَ ذٰلِكَ يُمْسِكُ نَفْسَهُ عَنْ ذٰلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تعالى. فهنا يبرز قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً .أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ. يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ –تَعَالَى." رَوَاهُ الإمام أَحْمَدُ.
أسأل اللهَ سبحانه وتعالى أن يرزقَنا – وأهلينا –التخلُقَ بالحِلمَ والأَناةَ، وأن يعيذنا من الغضب المذموم
عباد الله : صلوا وسلموا على من أمركم الله ....
المرفقات
1763104052_الغضب وعلااجه.doc