القرآن وتسلية المصاب
هلال الهاجري
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد:
رَوَى الإمَامُ أَحمَدٍ فِي مُسنَدِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا)، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: (بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا).
هَل لاحَظتُم أَنَّ سَبَبَ الدُّعَاءِ هُو الإصَابَةُ بالهُمُومِ والأحزَانِ، وأَلفَاظُ الدُّعَاءِ هِيَ فِي تَقويَّةِ عَلاقَةِ الإنسَانِ مَعَ القُرآنِ؟، فَمَا هِيَ العَلاقَةُ بَينَ القُرآنِ وبَينَ الأحزَانِ؟، والجَوابُ: أَنَّ سَبَبَ الهَمِّ وَالحَزَنِ فِي القَلبِ هِيَ المَصَائبُ التي تُصِيبُ الإنسَانَ، والقُرآنُ الكَريمُ هُو عِلاجٌ لِلقُلُوبِ وَسَبَبٌ لِلتَّسليمِ والاطمِئنانِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
القُرآنُ يُهَيُّئُ أَهَلَ الإيمَانِ، لِوُقُوعِ البَلاءِ والامتِحَانِ، فَيَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، فَالمَصَائبُ وَاقِعَةٌ عَلى الجَميعِ دُونَ اِستِثنَاءٍ، بِأَنواعٍ مُختَلِفَةٍ مِن أَشكَالِ الاختِبَاراتِ والبَلاءِ، ثُمَّ تَنكَشِفُ عَن فَرِيقينِ: مَن ثَبَتَ وصَبَرَ فَلَهُ الأَجرُ، وَمَن جَزِعَ وَسَخِطَ فَلَهُ الوِزرُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: (إِنَّ عِظَمَ الْجزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ، وإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوماً ابتلاهُمْ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرضَا، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ).
القُرآنُ فِيهِ البُشَارةُ للمُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ، أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهم فَهَوَ فِي مِيزَانِ الحَسَنَاتِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا)، فَكُلُّ مَا أَصَابَكَ فَهُوَ لَكَ مِن خَيرٍ أَو شَرٍّ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (عَجَبَاً لأَمرِ المؤمِنِ إنَّ أَمرَهُ كُلَهُ خَيرٌ وَلَيسَ ذَاكَ لأَحدٍ إلا لِلمُؤمِنِ، إن أَصَابتْهُ سَراءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيراً لَهُ، وإن أَصَابتْهُ ضَراءُ صَبرَ فَكَانَ خَيراً لَهُ).
القُرآنُ يُعَلِّمُ أَهلَ الصَّبرِ والاحتِسَابِ، مَاذا يَقُولونَ عَندَ وُقُوعِ الفَوَاجِعِ والمُصَابِ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجلَّ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، يَقُولُ الأَصمَعيُّ: خَرَجتُ أَنَا وَصَدِيقٌ لي إلى البَاديةِ، فَضَلَلنَا الطَّرِيقَ، فَإذا نَحنُ بِخيمَةٍ عَلى يَمينِ الطَّريقِ، فَقَصدَنا نَحوَها فَسَلَّمْنا فَإذا عَجُوزٌ تَردُّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَتْ: مَن أَنتُم؟، قُلنَا: قَومٌ ضَلَلنَا الطَّريقَ، وَقَومٌ جِيَاعٌ، فَقَالَتْ: وَلُّو وُجُوهَكم حَتَى أَقضِيَ مِنْ حَقِّكُم مَا أَنتُم لَهُ أَهْلٌ، فَفَعَلْنا وَجَلسنَا عَلى فِرَاشٍ أَلقتْهُ لَنَا، وَإذا بِبَعِيرٍ مُقبِلٍ وَعَليهِ رَاكِبٌ، وَإذا بِهَا تَقُولُ: أَسأَلُ اللهَ بَرَكَةَ المُقبلِ، أَمَّا البَعِيرُ فَبَعِيرُ وَلَدِي، وَأَمَّا رَاكِبُهُ فَلَيسَ بِوَلدِي.
فَجَاءَ الرَّاكِبُ قَالَ: يَا أمَّ عَقِيلٍ السَّلامُ عَليكِ، أَعظَمَ اللهُ أَجرَكِ في عَقِيلٍ، فَقَالَتْ: وَيحَكَ أَو قَد مَاتَ عَقِيلٌ؟ قَالَ: نَعَم، ازدَحَمَتْ عَليهِ الإبلُ فَرَمَتْ بِهِ في البِئرِ، فَقَالَتْ: انزِلْ، فَدَفَعَتْ لَهُ كَبشَاً وَنَحنُ مَدهُوشُونَ، فَذَبحَه وَأَصلَحَهُ وَقَرَّبَ إلينَا الطَّعَامَ، فَجَعَلْنا نَتَعَجَبُ مِنْ صَبرِهَا، فَلَمَّا فَرغْنا، قَالَتْ: هَلْ فِيكُم أَحدًا يُحسنُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ شَيئًا، قُلنَا: نَعَم، قَاَلتْ: فَاقرَؤوا عَليَّ آياتٍ أَتَعزَّى بِهَا عَن ابني، قُلتُ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) قَالَتْ: آللهِ إنَّها لَفِي كِتَابِ اللهِ؟، قُلتُ: وَاللهِ إنَّها لَفِي كِتَابِ اللهِ، قَالَتْ: إنَّا للهِ وَإنَّا إليهِ رَاجِعُونَ، صَبرًا جَمِيلاً، وَعِندَ اللهِ احتَسَبُ عَقِيلاً، اللهمَّ إنِّي فَعَلتُ مَا أَمرتَني بِهِ فَأنجزْ لي مَا وَعدَتَني، وَلَو بَقِيَ أَحدٌ لأَحدٍ لَبِقِيَ مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ؛ قَالَ: فَخَرجْنَا وَنَحنُ نَقولُ: مَا أَكمَلَ مِنهَا وَلا أَجزَلَ.
أَقُولُ قَولي هَذَا، وَأَستغفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكم وَلِسَائرِ المسلمينَ، إنَّه هُوَ الغَفورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الذي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالذي قَدَّرَ فَهَدَى، أَحمَدُهُ سُبحَانَه عَلى نِعَمِهِ التي لا تُحصَى، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الحَمدُ في الآخِرَةِ وَالأُولى، وَأَشهَدُ أَنَّ نَبيَّنَا مُحمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ المُرتَضَى، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلى عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ المُصطَفَى، وَعَلى آلِه وَصَحبِهِ وَمِن تَبعَهُم وَاقتَفَى، أَمَّا بَعدُ:
القُرآنُ فِيهِ التَّوجِيهُ السَّلِيمُ والإرشَادَاتُ، لِمَا يَنبَغِي فِعلُهُ عِندَ استِقبَالِ أَخبَارِ النَّائبَاتِ، كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا فِي سَفَرٍ، فَجَاءَهُ نَعيُ أَخِيهِ قُثَمُ، فَاستَرجَعَ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّريقِ، فَأَنَاخَ فَصَلَّى رَكعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الجُلوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشي إلى رَاحِلَتِه وَهُوَ يَقُولُ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).
القُرآنُ يُخبِرُنَا أَنَّ المَصَائبَ هِيَ مِن العَزِيزِ الحَكيمِ، فَكُلُّ الخَيرِ فِي تَقدِيرِ العَلِيمِ الرَّحِيمِ، قَالَ سَبحَانَهُ وَتَعَالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، يَقُولُ عَلقَمَةُ رَحِمَهُ اللهُ: هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى.
فَالقُرَآنُ مِن أَولِّهِ إلى آخِرِهِ هُو لِتَسلِيَّةِ المَحزُونِ والمُصَابِ، والتَّذكِيرِ بالحِكمَةِ والصَّبرِ والأَجرِ والثَّوابِ، وَمَن فَهِمَ مِنهُ غَيرَ ذَلِكَ فَقد أَساءَ الفَهْمَ وأَخطَأَ البَابَ، خَرَجَ ابنُ عَقِيلٍ الحَنبَلِّيُّ رَحِمَهُ اللهُ في جَنَازَةِ ابنِهِ عَقِيلٍ، وَكَانَ أَكبرَ أَولادِهِ وطَالِبَ عِلمٍ، فَلَمَّا كَانُوا في المَقبَرَةِ صَرَخَ رَجُلٌ وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، وَضَجَّ النَّاسُ بِالبُكَاءِ، فَقَالَ لَهُ ابنُ عَقِيلٍ: إنَّ القُرآنَ إنَّمَا نَزَلَ لِتسكِينِ الأَحزَانِ، وَلَيسَ لِتَهييجِ الأَحزَانِ.
اللهمَّ إنَّا عَبيدُكَ، بَنو عَبيدِكَ، بَنو إمَائكَ، نَوَاصِينَا بِيَدِكَ، مَاضٍ فِينَا حُكمُكَ، عَدلُ فِينَا قَضَاؤكَ، نَسألُكَ اللهمَّ بِكُلِّ اسمٍ هُوَ لَكَ، سَميتَ بِهِ نَفسَكَ، أَو أَنزَلتَهُ في كِتَابِكَ، أَو عَلَّمتَهُ أَحداً مِن خَلقِكَ، أَو استَأَثرَتَ بِهِ في عِلمِ الغَيبِ عِندَكَ، أَنْ تَجعَلَ القُرآنَ العَظيمَ رَبيعَ قُلوبِنَا، وَنُورَ صُدورِنَا، وَذَهَابَ أَحزَانِنَا، وَجَلاءَ هُمومِنَا، اللهمَّ إنَّا نَعوذ ُ بِكَ مِن زَوَالِ نِعمَتِكَ، وَتَحوِّلِ عَافِيتِكِ، وَفَجأَةِ نِقمَتِكَ، وَجَميعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ أَصلحْ لَنَا دِينَنا الذي هُوَ عِصمَةُ أَمرِنَا، وَأَصلَحْ لَنَا دُنيَانَا التي فِيهَا مَعَاشُنا، وَأَصلحْ لَنَا آخرتَنا التي اٍليها مَعَادُنا، وَاجعلْ الحَياةَ زِيَادةً لَنَا في كُلِ خَيرٍ، وَاجعلْ المَوتَ رَاحَةً لَنَا مِن كُلِ شَرٍ، اللهمَّ آمنا في أَوطَانِنا، وَأَصلِحْ أَئمتَنا وَوُلاةَ أَمرِنا، اللهمَّ كُنْ لهم عَلَى الحَقِّ مُؤيداً ونَصيراً، ومُعِينَاً وَظَهيراً، اللهمَّ ارزقهُم البِطَانةَ الصَّالحةَ، اللهمَّ اجعَلهُم رَحمةً على عِبادِكَ المؤمنينَ.
المرفقات
1761756428_القرآن وتسلية المصاب.docx
1761756441_القرآن وتسلية المصاب.pdf
 
                             
                             
             
             
             
             
                                 
                 
                     
                     
                         
                         
                     
                