المذكرات بالله سبحانه

بسم الله الرحمن الرحيم

المذكرات بالله سبحانه

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب المشارق والمغارب، خلق الإنسان من طين لازب، ثم جعله نطفة بين الصلب والترائب، نحمده تبارك وتعالى حمد الطامع في المزيد والطالب، وندعوه دعاء المستغفر الوجل التائب، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة متيقن بأن الوحدانية لله أمر لازب، وأن الكافرين به لهم عذاب واصب، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله القائم بعبادة ربه والدائب، أرسله الله للإنس والجن فمن استرق السمع أتبعه شهاب ثاقب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الكرام النجائب.

 

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:

 

عباد الله: طبيعة الإنسان الغفلة وعدم التذكّر، ابتداءً من آدم -عليه السلام؛ قال سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)؛ فورثت ذلك منه ذرّيته، فكل الناس ينسون ويغفلون، ولم يعصم الله -سبحانه- من ذلك إلا خواص أنبيائه -عليهم السلام- في أمور الشريعة، وتعجب من الناس كيف تتراءى أمامهم الدلائل على الساعة وأماراتها والموت وما بعده فلا ينتبهون ولا يتأملون؛ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.. ).

 

ولأهمية تذكر الله، وخطورة الغفلة عنه، وجّه الله -سبحانه- رسوله -صلى الله عليه وسلم- خير الخلق وسيد المتذكرين؛ فأوصاه -سبحانه- بقوله: (وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)، وقال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)؛ فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟

 

معاشر المؤمنين: ولأن الغفلة منتشرة بين الناس بشكل مخيف؛ إلا إن من رحمة الله -سبحانه- جعل للمؤمنين خاصة مذكرات تذكرهم بالله، وتقودهم للرجوع إليه بعد غفلتهم؛ منها:

نعم الله -سبحانه-؛ كقدوم مولود، أو نجاح تجارة، أو نجاة من مصيبة، عند النجاح اللاعبون يسجدون، والأغنياء يتصدقون، وبعض الناس يعتمرون، وبعض الناس يصومون، وبعضهم يتركون معصية مقيمون عليها، وهكذا قادتهم النعم لذكر الله، ولو لم تكن هذه النعم لزاد نسيانهم لله -تعالى- ودامت غفلتهم إلا من رحم الله.

 

ومما يذكر العبد بربه ويزيل عنه الغفلة المصائب؛ فالمصائب تذكر الإنسان بربه -سبحانه-؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض أو حصول اليسر.

 

ولهذا قال الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-: من النعم تعذيب العبد بذنبه في الدنيا. اهــ.

وكيف تكون العقوبة نعمة وهي مصيبة؟ نعم تكون كذلك؛ لأنها تذكر بالله -سبحانه-.

 

وهكذا متى فقد العبد نعمة ثم عادت إليه فإن ذلك مذكر له بربه -سبحانه-؛ فمثلا الإنسان الذي خلق مبصراً فإنه مع الأيام ينسى هذه النعمة ويغفل عن الذي وهبها ولا يقدرها حق قدرها؛ فإن ابتلاه الله بضعف البصر مؤقتاً، ثم عاد إليه بصره أحس بكل مشاعره بقيمة هذه النعمة.

 

وإن رأى المؤمن كافراً يعيش كالأنعام أحس بنعمة الإيمان، وإن رأى جاهلاً أحس بنعمة العلم، فدوام النعم كالعافية والمال والجمال قد ينسي الإنسان هذه النعم فلا يشكرها، فيقبضها الله ثم يعيدها إليه تذكيراً له بها ليشكرها.

 

ومما يذكر العبد بالله وجود الشيطان وكيده؛ حيث يعرض الشيطان للإنسان فيؤذيه في قلبه أو جسده أو أهله أو سفره أو منامه فيستعيذ بالله -سبحانه- منه ومن وساوسه، ويعتقد بعض الناس أن وجود الشيطان شرر محض لا خير فيه، وهذا خطأ؛ بل حكمة الله -سبحانه- ظاهرة في وجود إبليس والشر، ذكر ابن القيم منها عشرات الحكم، وقد قيل:

عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه*** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه

 

قال عمر -رضي الله عنه-: تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا وجد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.

 

عباد الله: وإبداع الله -سبحانه- في خلقه وحسنه في صنعه يذكرنا بالله؛ سئل أعرابي عن الدليل فقال: البعرة تدل على البعير، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير؟

 

نعم، إنه الصانع الحليم العليم القدير في أنفسنا ودوابنا والكون حولنا؛ (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)، (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ).

 

الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ *** وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ

الطَّيْرُ سَبَّحَهُ وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ *** وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ وَالْحُوتُ نَاجَاهُ

وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ *** وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ

وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا فَيَسْتُرُهُمْ *** وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ

 

قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه..

 

أيها المسلمون: وينعم الله -سبحانه- على بعض الكافرين فينتبهوا خلال أبحاثهم ودراساتهم وصلواتهم إلى الحق والخالق فيتذكروا الله؛ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )، ولهذا أسلم العالم التايلاندي (تاجاس) بسبب الإعجاز في ترتيب خلق الجنين، وأسلم البروفيسور الياباني ( يوشيدي كوزاي)، والبروفيسور الأمريكي (بالمر) بسبب خلق الكون من دخان، والرحالة عالم البحار جاك كوستو الذي أسلم بسبب مرج البحرين.

 

وفي كل يوم يكتشف العلماء خلقاً جديداً لم يروه من قبل، وذلك من قدرة الله -سبحانه- وعجائب صنع الله في أرضه، وهذا مدلول الفعل المضارع في قوله -سبحانه-: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الدال على الاستمرار.

 

أيها الأحبة: ولأنّا جميعا لا نسلم من هذه الغفلة في حياتنا؛ لذا كان حري بنا أن نتلمس من الوسائل ما يذكرنا بربنا ويعيننا على رجوعنا لخالقنا، ونحرص كل الحرص على تلمس ما يزيل غفلتنا ويجعلنا في حال يقظة دائما قبل أن يأتينا موتنا على حين غفلة؛ فنقبل على الله -تعالى- غافلين مفرطين، وحينها نصبح من الخاسرين.

 

عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا عليٍّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.

 

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.

 

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.

المرفقات

1762215313_المذكرات-بالله.pdf

1762227438_المذكرات بالله.docx

المشاهدات 115 | التعليقات 0