المصيبة بموت العلماء

عبدالرحمن اللهيبي
1447/04/04 - 2025/09/26 01:36AM

الحمد لله المتفرّد بالبقاء، القاضي على خلقه في هذه الدار بالموت والفناء ، القائلِ في محكم التنزيل {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } أحمده سبحانه جعل الموتَ رحمة للأتقياء و سوءَ منقلب للأشقياء ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، سيد الأنبياء، وخير الأصفياء ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد... فأُوصيكم أيها الناسُ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، فالموتُ آتٍ لا ريبَ فيه .. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ).

أيها المسلمون: لقد عظَّم الله شأنَ العلماء ، ورفع قدرَهم، وأعلى مقامَهم فاستشهَدَهم على توحيدِه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

العلماء هم المرجِعُ عند السؤال، وإليهم الردُّ عند الاستِشكال ، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

العلماء : إليهم المفزَعُ في أحكام النوازِلِ والفتن والمُدلهِمَّات، وهم الملاذُ للناس بتبصيرهم بالحق في الأزمات ، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

العلماء مجالِسُهم مجالِسُ فضلٍ وخيرٍ ورشاد، ومنابرهم منابر هداية ودلالة وإرشاد ، حلقاتُهم تغشاها الرحمة، وتحُفُّها الملائكة، ومُجتمعُهم تتنزَّلُ عليه السَّكينة، ويذكرُهم الرحمنُ فيمن عنده، بضاعتُهم باقيةٌ بعد موتهم، وأجرُهم بتبليغ العلم جارٍ عليهم بعد رحيلِهم، فلهم أجورُ من تبِعَهم ، واهتدى بهداهم ، وسارَ على طريقِهم

بحُسن تعليمهم يتبصر المتبصرون ، وبجميل مواعِظِهم يرجِعُ المُقصِّرون.

العلماء هم ورثة النبوة وحملة الرسالة ، هم سُرُجُ العباد، ومنارُ البلاد، هم أولياءُ الرحمن، يقول الشافعيُّ رحمه الله: "إذا لم يكُن العلماءُ أولياءُ الله، فلا أعرفُ لله وليًّا".

لا يعرفُ الفتنَ إذا أقبلَت، ولا يقِفُ أمامَها إذا تعاقبَت.. إلا أهلُ العلم الراسِخون الربانيُّون، يُبيِّنون الحقَّ للناس ، ويرُدُّون الشُّبُهات.. ينفونَ عن الدين تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ

أيها المسلمون.. من علامات توفيقِ الله: حبُّ أهل العلم، وذكرُهم بالجميل، وتوقيرُهم من غير ادِّعاء عصمَتهم، فنحبُّهم لأجل ما خصَّهم الله به من علمٍ وتعليم وإصلاحٍ ، ولما منحَهم ربُّهم من فضلٍ وحكمة واستقامةٍ

قال ﷺ : (ليس منَّا من لم يُجِلَّ كبيرَنا، ويرحَم صغيرَنا، ويعرِف لعالِمِنا حقَّه).

ويقول طاوسُ بن كيسان رحمه الله : "من السُّنَّة: أن يُوقَّر أربعة: العالِم، وذو الشَّيبة، والسُّلطان، والوالِد".

أيها المسلمون... ومن أعظم حقوقِ العلماء : حفظُ الألسِنة عن الوقيعَة بهم ؛ ودفع مقالة السوء عنهم ، والذب عن أعراضهم ، يقول الحافظُ ابن عساكر رحمه الله: "اعلَم.. أن لحومَ العلماء مسمُومة، وعادةَ الله في هَتكِ من ناوءَهم معلُومة، وقلَّ من اشتغلَ في العلماء بالثَّلبِ.. إلا عُوقِبَ قبل موتِه بموتِ القلبِ"

وإنه متى ما ازدرى الناس علماءهم ، ثم حِيلَ بين العلماء وبين الأمة.. إلا هلكَت الأمة، وخلا الجوُّ للفساق والمنافقين.

فالناسُ من غير العلماء.. جُهَّالٌ تتخطَّفُهم الشياطينُ ، شياطين الإنس والجنِّ، فإنه لا يقِفُ في وجوهِ الزنادِقة المُنافقين أو الخوارج المارقين ، إلا العلماء الربانيون .

وما غابَ أهلُ العلم في مجتمع إلا وتصدَّر الجُهَّال من الكُتَّاب واعتلى أصحابُ اللهو والمُجُونِ والفساق وصاروا رموزًا للناس وقُدوات.

وأين هؤلاء الجهال والفساق من العلماء الربانيين مصابيحِ الدُّجَى، وأعلام الهُدى، والآمِرين بالمعروف، والناهِين عن المُنكر، والساعِين في مصالِح المُسلمين، حُرَّاس الملَّة والدين ، فما أحسنَ أثرَهم على الناس، وما أقبَحَ أثر الناس عليهم.

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 


 

أيها المسلمون: ألا وإن أعظمَ أنواعِ الفقْد على النفوس وقعًا وأشدَّه على الأمة لوعة وأثرًا .. هو فقد العلماء الربانين والأئمة المصلحين؛ فالعلماء للناس شموسٌ ساطعة وكواكبُ لامعة، يحيون بكتاب الله قلوب الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويهدون به من ضل إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، (  يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )

ولذلك كان فقدهم من أعظم الرزايا، والبلية بموتهم من أعظم البلايا

فأنَّى للسائرين في دياجير الظلمات أن يهتدوا إذا انطمست النجوم المضيئة ،

وحسبكم ـ يا عباد الله ـ في بيان فداحة فقد العلماء وعظيم الخطب بموت الأئمة الصلحاء قول المصطفى ﷺ : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)).

قال ابن عباس رضي الله عنه: "لا يزال عالم يموت وأثر للحق يدرس حتى يكثر أهل الجهل، ويذهب أهل العلم، فيعمل الناس بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويَضِلون عن سواء السبيل" ، قيل لسعيد بن جبير رحمه الله: ما علامة الساعةِ وهلاكِ الناس؟ قال: "إذا ذهب علماؤهم" فموت العالم من علامات الساعة قال ﷺ : ((تظهر الفتن، ويكثر الهرج، ويُقبض العلم))، وقال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء "  

وقد رأينا شيئًا مما ذكر في الأزمنة الأخيرة حين فقدت الأمة كوكبة من علمائها ، ونخبةً من فقهائها ، حتى رُزئت قبل أيام بفقد عالم آخر في انفراطٍ لعقد متلألئ وضاء، وبموت هؤلاء الجهابذة تُطوى صفحات لامعة ، وسجلاتٌ ناصعة من نماذج في العلم والتُقى شامخة ، وجبالٍ في السنة والفتوى راسخة ، فضائلهم لا تُجارى، ومناقبهم لا تُبارى، ثلمتهم لا تسد، والمصيبة بفقدهم لا تُحدّ، والفجيعة بموتهم نازلة ، والخطب بفقدهم جلل، فليست الرزية على الأمة بفقد مال أو بموت شاة أو بعيرِ، ولكن الرزية أن يموت عالمٌ يموت بموته جمعٌ غفير ..

أيها المسلمون، وإن مما يعزي نفوس أهل الإسلام في فقد علمائهم والأسى على فراقهم أن الله سبحانه قد حفظ على هذه الأمةِ دينها، وحفظ لها كتابها، ويبعث لهم على رأس كل مئة عام من يجدد للأمة أمر دينها ، فلا يخلو عصر العصور من علماء مصلحين، وأمناء مخلصين..

وعزاؤنا في من بقي من العلماء الأكابر الربانيين الذين تربوا على منهج الوحي الكريم ، يعظمون النص في الفتوى ، ولا يخضعونه ليوافق أهواء العامة أو الخاصة

أو ليوافق إفرازات الحضارة المادية المعاصرة

(( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ))

اللهم تغمد الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ برحمتك يا أرحم الراحمين، وارفع منزلته في أعلى عليين، واخلف على الإسلام وأهله بخير يا رب العالمين.

المشاهدات 659 | التعليقات 0