المعالجات النبوية لأزمة الفقر

د مراد باخريصة
1447/02/06 - 2025/07/31 09:58AM

الخطبة الأولى:

الحمد لله الغني الكريم، الواسع الجواد، رفع من شاء بفضله، وابتلى من شاء بحكمته، لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فأوصيكم عباد الله ونفسي المقصّرة بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء:131].

أيها المسلمون: إن من أعظم المشكلات التي واجهت البشرية قديمًا وحديثًا: أزمة الفقر، تلك المشكلة التي تنخر في جسد المجتمعات، وتُضعف الأُسر، وتُهدد الأمن والسلم، بل وتُعرض العقائد والأخلاق لخطر الانحراف والضياع.

مشكلة الفقر التي لم تترك زمانًا إلا وطبعته بطابع الحاجة والحرمان، ولا مجتمعًا إلا وأثّرت فيه، وهي اليوم تُهدد ملايين المسلمين في شتى بقاع الأرض.

ولئن عجزت النظم الوضعية عن تقديم حلول ناجعة، فإن المنهج النبوي قدّم رؤية متكاملة، واقعية وإنسانية، لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة.

معاشر المسلمين: ليس في الإسلام دعوة للفقر، بل الإسلام يدعو إلى السعي والعمل والتكافل، ويُرشد الفقير إلى الحركة والعمل، ويُرشد المجتمع إلى التكافل، ويُرشد الدولة إلى العدالة في التوزيع.

فالرسول ﷺ استعاذ بالله من الفقر، وقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" [رواه النسائي] فجمع بين الفقر والكفر لما بينهما من ارتباط خطير.

ولخطورة الفقر استعاذ النبي ﷺ من الدَين، لأن المدين إذا غرم كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا تدّين انذل.

عباد الله: إن النبي ﷺ لم يقف عند الاستعاذة والدعاء لمعالجة أزمة الفقر، بل وضع حلولًا عملية لهذه المعضلة الخطيرة.

فالعمل الشريف هو خط الدفاع الأول ضد الفقر، لهذا وجّه النبي ﷺ الناس إلى العمل، فقال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده" [رواه البخاري].

بل ضرب بنفسه المثل، فقد كان ﷺ يرعى الغنم، وداود عليه السلام كان حدادًا، وكان يأكل من عمل يده: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]، وقال:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10 - 11].

وقال ﷺ قولًا عظيمًا: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيكف بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" [رواه البخاري].

لكننا – للأسف – نرى في زماننا هذا شبابًا يأنف بعضهم من العمل الحرفي، ويبحث عن المال السريع أو الوظيفة المريحة ولو بدون إنتاج، في حين أن النبي ﷺ رفع من شأن كل عمل حر نزيه شريف.

فعلينا أن نعيد للمهن اليدوية كرامتها، وأن نفتح أبواب التدريب والتمويل لنتخلص من مشكلة الفقر وتفاقماتها.

ومن الحلول لمشكلة الفقر: الزكاة الواجبة التي فرضها الله سبحانه في أموال الأغنياء، فتُؤخذ من أغنيائهم وتُرد إلى فقرائهم:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة : 103].

يقول الرسول ﷺ لمعاذ بن جبل لما أرسله لليمن: "فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" [رواه البخاري].

واليوم نرى – وللأسف – كم من أموال الزكاة تضيع أو تُوجَّه في غير مصارفها؟ وكم من الأغنياء لا يخرجون زكاة أموالهم؟ ولو وُزعت الزكاة كما أمر النبي ﷺ، لما بقي فقير ولا محتاج في هذه الأمة.

ومن المعالجات النبوية لمعضلة الفقر: الوقف الخيري، فقد أوقف النبي ﷺ بعض أراضيه للفقراء والمساكين، وكانت سياسة مستدامة لمكافحة الفقر.

فالوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة، كما قال النبي ﷺ لعمر لما أراد التصدق بأرض:

"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" [صحيح البخاري]، وهو من أعظم التوجيهات النبوية لعلاج الفقر بشكل دائم.

وفي عصرنا الحاضر: يمكننا إنشاء أوقاف لدعم الأيتام، والمساكين، وتمويل المشاريع الصغيرة، والتعليم والصحة، بدلًا من الاقتصار على المساعدات المؤقتة.

وكذلك التكافل الاجتماعي فإنه علاج ناجع للفقر، فقد كان ﷺ يشارك الفقراء في طعامه، ويأمر أصحاب المال بإيواء أهل الصفة، ويقول: "من كانَ عندَهُ طعامُ اثنينِ فليذهبْ بثالثٍ، ومن كانَ عندَهُ طعامُ أربعةٍ فليذهبْ بخامسٍ، بسادسٍ...".

فما أحوجنا اليوم إلى تفعيل التكافل الاجتماعي في أحيائنا ومدارسنا ومؤسساتنا! فكم من العائلات تعيش تحت خط الفقر وسط جيران أغنياء لا يشعرون بهم بسبب غياب التكافل الاجتماعي!

وكم من مسلمين ينامون جياعًا، وأموال المسلمين تُهدر في لهو وترف وبذخ؟

وكم من يتيم لا يجد مأوى، وأموال الزكاة تُجمع ثم لا تُصرف في مصارفها؟

واقعنا اليوم يعاني من فقر متزايد، في دول غنية بالثروات، ولكنه فقر بسبب الظلم وسوء التوزيع والفساد، وليس نقصًا في الموارد.

أليس من العار أن يمدّ مسلم يده للغريب والمنظمات الدولية والصليبية، وإخوانه في الدين يملكون ولكنهم – للأسف – لا يُعطون؟

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة : 215]

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران : 180].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على ما أنعم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فيا عباد الله، إن الواجب علينا أن نُحيي التوجيهات النبوية في واقعنا، فكل قادر على العمل فعليه أن يعمل، والدولة والتجار ونحوهم عليهم أن يوفروا للشباب الفرص والوظائف التي تحفظ الكرامة وتمنع المسألة.

على الأغنياء إخراج الزكاة وتوسيع الصدقات، فالزكاة ليست إحسانًا، بل حق واجب للفقراء.

وأن يُحيوا روح الوقف والمشاريع الوقفية الإنتاجية؛ لأنها صدقات جارية تُنقذ أجيالًا لا أفرادًا فقط.

وكذلك تفعيل صندوق الزكاة والضمان الاجتماعي وفق ضوابط الشريعة، بحيث يُكفَى فيه كل صاحب حاجة.

أعيدوا للفقراء حقوقهم، قوموا بواجباتكم، عالجوا الفقر بالعلم والعمل والرحمة، لا بالشعارات والوعود الكاذبة.

هل تحسس أحدنا يومًا جاره وأقاربه؟ هل خصص أحدنا من مرتبه شيئًا ثابتًا شهريًا لأسرة محتاجة ولو بمبلغ بسيط؟ هل تفقدنا أسر الأرامل والمطلقات والمعاقين والعاطلين عن العمل؟

فإن أمتنا لن تنهض ما دام بيننا من يبيت جائعًا.

 

يقول الرسول ﷺ: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم أعذنا من الكفر والفقر، ومن فتنة المال والغنى المُطغي، اللهم ارزقنا حب الفقراء، ورفقة المساكين، وسعادة الإنفاق.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وأقم الصلاة.

 

المرفقات

1753945114_المعالجات النبوية لأزمة الفقر.doc

المشاهدات 90 | التعليقات 0