النهر الجاري في سيرة الإمام البخاري

النهر الجاري في سيرة الإمام البخاري

الخطبة الأولى

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . أمّا بعد : -

فاتقوا الله وراقبوه ، فتقوى الله هي سبب للسعادة ، والفلاح في الدنيا والآخرة .

عباد الله : إن التاريخ حفظ رجالاً من أهل الإسلام ، لا يمكن زوالُ ذكرِهم إلا بزوال الإسلام ، ولن يزول الإسلام إلى قيام الساعة . إنهم حمَلَة هذا الدِّين وناقلوه إلى الناس ، عبر هذه القرون الطوال . منهم عالمٌ من علماءِ الأمة ، من علماء القرنِ الثالث الهجري ، رجلٌ اقترن اسمُهُ باسمِ النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا تكادُ تسمعُ قال صلى الله عليه وسلم ، إلا ومعها أخرجهُ أو رواه . وهو من حفَّاظ السنة والذابِّين عنها ، ولهذا ذبَّ الله عن عرضه ، فلا يتكلم فيه أحد إلا سقط وهلك وافتضح ، وقيَّض الله من يدافع عنه ، إنه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله ، واسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري ، من مدينة بخارى في إقليم خراسان (أوزبكستان الحالية) ، إذن فهو ليس عربي في الأصل ، بل أعجميُّ الأصل والبلد ؛ فالعبرة ليست بعروبة النشأة واللِّسان ؛ ولكنها بالدين الصحيح قولاً وعملاً . ولد الإمام البخاري يوم جمعة في سنة أربع وتسعين ومائة ، ومات أبوه وهو صغير ، فنشأ في حجر أمه ، فتوجّه إلى حفظ الحديث وهو في الكتّاب وكان عمره حينذاك عشر سنين ، وكان يُصَحِّحُ لشيخِهِ خطأهُ في الإسناد ، وهو ابن إحدى عشرةَ سنة ، وحَفِظَ كتُبَ العلماءِ الكبار وهو ابن ستَّ عشرةَ سنة ، ثم حجَّ مع والدتهِ ومكث بمكةَ لطلبِ الحديث . فكان هذا أول ارتحاله في طلب العلم ، ثمَّ رحل إلى المدينة والشام ومصر ونَيسابور والبصرة والكوفة وبغداد وغيرها ، بدأ تصنيف بعض كتبِه مثلُ كتابهِ العظيم (التاريخُ الكبير) وهو ابن ثمانِ عشرةَ سنة ، والكتب التي كتبها وهو في هذه السنِّ المبكِّرة يقوم على دراستها عشرات من كبار الدارسين في هذا العصر لنَيْل درجات علمية عالية . وقد وهب الله الإمام البخاري منذ طفولته قوة في الذكاء والحفظ من خلال ذاكرة قوية تحدى بها أقوى الاختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف . فكان يصاحبُ أقرانه إلى المشايخ لأخذِ الحديث عنهم ، وهم يكتبون وهو لا يكتب ، ويأمرونه بالكتابةِ وهو لا يكتُب ، فلمَّا ألحُّوا عليه ، قال لهم بعد ستة عشر يومًا : إنكما قد أكثرتما عليَّ وألحَحْتُما ، فاعرضا عليَّ ما كتبتما ، فأخرجنا إليه ما كان عندنا ، فقرأ عليهم ما كتبوه عن ظهرِ قلب ، فزاد على خمسة عشر ألف حديث ، ثم قال لهم : " أترون أني أختلف هَدْرًا وأضيِّع أيامي " . فكانوا يُصحِّحون ما كتبوه من حفظِهِ رحمه الله . وكان يأخُذُ الكتابَ من العلم فيطَّلِعُ عليه اطلاعه واحِدة ، فيحفظُ عامَّةَ أطرافِ الحديث من تلك المطالعة .

عباد الله : إن الإمام البخاري بعلمِهِ وعملِه ، وإتباعِهِ للسنة وإخلاصِه ، بلغ صيتُه الآفاق ، وأثنى عليه العلماءُ ، فهو بحرٌ لا ساحلَ له . ومع علمه وحفظه كان آيةً في العبادة ، لم يشغلهُ الحديثُ عن القرآن ، إذ كان يختِمُ في كلِّ يومٍ من رمضانَ ختمة ، وكان ذا خشوعٍ عظيمٍ في صلاته . وكان رحمه الله رجلاً معروفاً بالكرم والجود والسخاء ، وكان عالماً ورعاً تقياً ،  قليل الكلام ، وكان لا يطمع فيما عند الناس ، وكان لا يشتغل بأمور الناس ، كل شغله كان في العلم .

عباد الله : لقد كانت الرؤيا التي رآها البخاري ، وقولُ شيخه إسحاق بن رَاهَوَيْه حافزًا على جَمْعِه " الصحيح " ، فقد قال : إني رأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المنام ؛ " وكأنني واقفٌ بين يَدَيْه ، وبيدي مروحة أذبُّ بها عنه ، فسألتُ بعض المعبِّرين ؛ فقال لي : أنت تذبُّ عنه الكذب ؛ فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح " .

وقال : " كنا عند إسحاق بن رَاهَوَيْه ، فقال : لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ! قال : فوقع ذلك في قلبي ؛ فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح " . وكتابه الجامع الصحيح ، أجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه . إذ لا يوجد على وجه الأرض كتابٌ أصحُّ منه إلا كتابُ الله تعالى . وما كان ذلك إلا توفيقًا من الله تعالى ، وكَرَمًا منه لهذا الإمام العظيم ، ثم تحرِّي هذا الإمام ودقَّته . وكثرة استخارته . فرحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، وجمعنا به في دار كرامته . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه ؛ إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه ، كما يحبُّ ربنا ويرضى ، أحمده وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدين . أما بعد :-

فلقد أخرج البخاري كتابه " الجامع الصحيح " على أحسن وجه . يقول رحمه الله تعالى : " ما وضعتُ في كتاب " الصحيح " حديثًا إلاَّ اغتسلت قبل ذلك وصليتُ ركعتين " . ويقول : "صنَّفْتُ " الجامع " من ستمائة ألف حديث ، في ست عشرة سنة ، وجعلته حُجَّةٌ فيما بيني وبين الله" .  ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه ، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى ، وتعهده بالمراجعة والتنقيح ؛ ولذلك صنفه وراجعه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن . وفي السنة الثانية والستين من عمر الإمام البخاري خرج إلى قرية من قرى سمرقند ، فنزل ضيفاً على رجل من أقربائه ، فسمعه هذا الرجل ليلة وقد فرغ من صلاته يقول في دعائه ( اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .  فما تم الشهر حتى قُبض ، مات بعد مرض دام أياماً قليلة ، وكان ذلك ليلة السبت ليلة عيد الفطر المبارك ، سنة ستٍّ وخمسين ومائتين .

 عباد الله : ومع كل هذا الحرص والدقة التي سمعتم ، فإننا لا نقول أن البخاري رحمه الله كان معصوماً ، بل هو يصيب ويخطئ في حياته العادية ،  لكنه كما يقول بعض أهل العلم : كان الإمام البخاري إذا أخذ مجلسه ، ومسك قلمه فإنه لا يخطئ ؛ ليس لأنه معصوم ولا لذاته ، بل لكمال منهجه ، وسعة حفظه للحديث ، فقد اختار الأحاديث وفق منهج شديد ، وشرطه لقبول الأحاديث شرط شديد ، فقد سار على ذلك المنهج وذاك الشرط .

عباد الله : إن للسنة النبوية والحديث ، خصوم ومُحَرِّفون وطاعنون ومنكرون ، ولقد ظهر في الآونة الأخيرة من سفهاء الأحلام ، وفاسدي المنهج ، من يطعن في الإمام البخاري ، ويشكك في كتابه الصحيح . وطعنهم في صحيح البخاري إما لهوىً شهواني ، أو ادعاء مناقضته للقرآن ، واليوم تُردُّ أحاديث المصطفى الصحيحة لعدم توافقها مع الحريات المنفلتة ، أو مع العقل ، أو مع الحزبيات والقيم المنافية للإسلام . والطعن في السنة النبوية وفي مقدمتها أحاديث الصحيح هي حلقة ضمن مشروع كبير  وهو التشكيك في مصادر الإسلام ؛ لتكون النتيجة : ظهور أجيال ضعيفة هزيلة مهزوزة الثقة بمصادر تشريعها ودينها ومبادئها ، ووالله لن يضير صحيح البخاري غمز الطاعنين ولا المتعالمين ، ولا تشكيك الحاقدين ؛ لأن أحاديث الصحيح هي من الدين ، والله تكفل بحفظ هذا الدين وبقائه . فما زال الصحيح وما زالت كتب السُّنَّة عندنا محل السمع والبصر ، يحفظها الحَفَظَة ، ويشرحها العلماء ، ويستدل بها الخطباء ، ويرويها الطلبة ، على مر السنين ، داعين لمن صنَّفها بالرحمة والغفران . رحم الله الإمام البخاري وأجزل مثوبته ، وجزاه عن الأمة خيراً ، وجمعنا معه في الفردوس الأعلى من الجنة . اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين ، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين . اللهم أحفظ بلادنا بلاد الحرمين الشريفين ، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما فيه الخير والصلاح للبلاد والعباد . اللهم أدفع عنَّا الوَباءَ والغلا والرِّبا والزِّنا ، والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ ، عن بلدِنا خاصةً ، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ عامةً يا ربَّ العالمينَ . اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً . اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ الطاعةِ ، ويُهدَى فيه أهلُ المعصيةِ ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف ، ويُنهَى فيه عن المُنكَر ، إنك على كل شيءٍ قديرٌ . اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا ، واشف مرضانا برحمتك يا أرحم الراحمين . ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ . ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

 

( خطبة الجمعة 23/5/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

 

المرفقات

1762890688_النهر الجاري في سيرة الإمام البخاري.docx

المشاهدات 26 | التعليقات 0