اهتمامُكَ مرآتُكَ

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/05/22 - 2025/11/13 17:46PM

اهتمامُك مرآتكَ

 

إنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَستَعينُهُ ونَستَغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا، ومن سَيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

 


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

 


أمَّا بعدُ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ، مشاعرُ الإنسانِ؛ من حُبٍّ وبُغضٍ، وفَرَحٍ وحُزنٍ، من أهمِّ المعاييرِ التي تكشِفُ عن مستوى تفكيرِهِ وعقلِهِ، ومدى إيمانِهِ ودينِهِ. ولذلك أولَى الإسلامُ هذه المشاعرَ اهتمامًا عظيمًا، ولم يجعَلْها هَمَلًا.

 


ومن ذلك ما قالهُ رسولُ اللهِ ﷺ كما في الحديثِ المتفقِ عليه:

«ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مما سِواهُما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّهُ إلَّا للهِ، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفرِ بعد إذ أنقذَهُ اللهُ منه كما يكرهُ أن يُقذَفَ في النارِ».

 


وقال عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «أوثقُ عُرَى الإيمانِ الحُبُّ والبُغضُ في اللهِ».

 


ولذلك نستطيعُ التعرُّفَ على مكانةِ الأشخاصِ من خلالِ معرفةِ الأسبابِ المُهيِّجةِ لمشاعرِهم؛ من حُبٍّ وبُغضٍ، وفَرَحٍ وحُزنٍ، فكلَّما كانت الأسبابُ عظيمةً كانوا هم كذلك، وكلَّما كانت صغيرةً كانوا كذلك.

 


بمعنى: قُل لي ما الذي يُحزِنُكَ ويُفرِحُكَ، أَقُلْ لك مَن أنت!

ودونكم سيرُ العُظماءِ شاهدًا ودليلًا على ما ذكرتُ، فإنَّه لا يهمُّهم ولا يهتمُّون إلَّا لأمرٍ عظيمٍ. ولن تجدوا أعظمَ من نبيِّكم ﷺ، فاستنطِقوا سيرتَهُ، فستَنطِقُ في كلِّ تفاصيلِها بأنَّه لم يهتمَّ لغيرِ أمرِ الإسلامِ وأهلِه، وعلوِّ شأنِهِ، وبلوغِ دعوتِهِ.

 


فإن فرِحَ، فلأجلِهِ، وإن حزِنَ، فلأجلِهِ، وإن ذرفَ الدموعَ، فلأجلِهِ، وإن أحبَّ وأبغضَ، فلأجلِهِ.

وقد عبَّر القرآنُ عن كلِّ هذه التفاصيلِ بقوله تعالى:

﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦].

وبقولِهِ سبحانه:

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: ٨].

 


ومن بعدِه، وعلى نهجِه، أصحابُهُ رضيَ اللهُ عنهم، فليس شيءٌ يهمُّهم ويهتمُّون له إلَّا الإسلامُ، وكلُّ أمرٍ ذي بالٍ، لذلك هم عظماءُ بعِظَمِ ما أهمَّهم.

 


فهذا أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه، منذ إسلامِه، قد سخَّر نفسَهُ ومالَهُ وأُسرتَهُ لخدمةِ الإسلامِ حتى ماتَ.

 


وعمرُ رضيَ اللهُ عنه، الذي قال: “واللهِ لو عثرت دابَّةٌ في الطريقِ لخشِيتُ أن يسألَني اللهُ عنها”. وكان أمرُ المسلمينَ يهمُّهُ حتى وهو في صلاتِهِ، فروي عنه أنَّهُ لربما جهَّزَ الجيشَ وهو في صلاتِهِ.

 


وهذا طلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنه، جاءهُ مالٌ له من الشامِ كثيرٌ، فباتَ ليلتَهُ يتململُ، فقالت له زوجتُه: ما لَكَ؟ قال: تفكَّرتُ منذ الليلةِ، فقلتُ: ما ظنُّ رجلٍ بربِّهِ يبيتُ وهذا المالُ في بيتِهِ؟ قالت: فأين أنتَ عن بعضِ أخلائِكَ؟ فإذا أصبحتَ فادعُ بجفانٍ وقِصاعٍ، فاقسِمهُ.

فقال لها: رحمكِ اللهُ، إنَّكِ موفَّقةٌ بنتُ موفَّقٍ، وهي أُمُّ كلثومٍ بنتُ الصدِّيقِ.

فلمَّا أصبحَ، دعا بجفانٍ، فقسَّمَها بين المهاجرينَ والأنصارِ، فبعثَ إلى عليٍٍّ منها بجفنةٍ. فقالت له زوجتُه: أبا محمدٍ، أما كان لنا في هذا المالِ من نصيبٍ؟ قال: فأين كنتِ منذ اليومِ؟ فشأنُكِ بما بقي. قالت: فكانت صرَّةٌ فيها نحوُ ألفِ درهمٍ.

 


وكذلك كانوا جميعًا رضيَ اللهُ عنهم، لا همَّ لهم يُحزنُهم ويقضُّ مضاجعَهم إلَّا الإسلامُ وشأنُهُ، والآخرةُ وأهوالُها، حتى أسلموها لمن جاء بعدهم من هذه الأمةِ. فتاريخُنا مليءٌ بالعظماءِ الذين ارتبطت مشاعرُهم بكلِّ عظيمٍ.

 


فرويَ عن صلاحِ الدينِ رحمهُ اللهُ أنَّه بعدما هيَّأَ الأمَّةَ وعبَّأَها لمعركتِهِ الكُبرى، وهي استردادُ بيتِ المقدسِ، امتنعَ عن الضحكِ، ومنعَ المزاحَ في جيشِهِ، حتى أنهى مهمَّتَهُ بهزيمةِ الصليبيينَ وطردِهم من بلادِ المسلمين، ورَدِّ بيتِ المقدسِ إلى حظيرةِ الإسلامِ والمسلمين.

 


ومن النماذجِ المعاصرةِ التي عاشت همَّ الإسلامِ، وارتبطت مشاعرُهم به، الشاعرُ والفيلسوفُ الهنديُّ محمَّد إقبال، فقد ذُكرَ عنه أنَّ أمَّهُ كانت إذا رأتهُ حزينًا، علمت أنَّ المسلمينَ في بلدٍ ما أصابَهم سوءٌ.

 


وقد ترجمَ هذا الهَمَّ في شعرِه إبداعًا، ما بين فخرٍ بأمجادِ المسلمينَ الماضيةِ، أو دموعٍ على مآسي المسلمينَ الحاضرةِ.

 


وإليكَ بعضًا من نفثاتِ همِّهِ وإبداعِهِ، فهو القائلُ:

 


مَلَكْنَا هذِهِ الدُّنْيَا قُرُونًا *** وَأَخْضَعَهَا جُدُودٌ خَالِدُونَا

وَسَطَّرْنَا صَحَائِفَ مِنْ ضِيَاءٍ *** فَمَا نَسِيَ الزَّمَانُ وَلَا نَسِينَا

حَمَلْنَاهَا سُيُوفًا لَامِعَاتٍ *** غَدَاةَ الرَّوْعِ تَأْبَى أَنْ تَلِينَا

إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْأَغْمَادِ يَوْمًا *** رَأَيْتَ الْهَوْلَ وَالْفَتْحَ الْمُبِينَا

وَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّى *** مَضَى بِالْمَجْدِ قَوْمٌ آخَرُونَا

وَأَصْبَحَ لَا يُرَى فِي الرَّكْبِ قَوْمِي *** وَقَدْ عَاشُوا أَئِمَّتَهُ سِنِينَا

وَآلَمَنِي وَآلَمَ كُلَّ حُرٍّ *** سُؤَالُ الدَّهْرِ: أَيْنَ الْمُسْلِمُونَا؟

تَرَى هَلْ يَرْجِعُ الْمَاضِي؟ فَإِنِّي *** أَذُوبُ لِذَاكَ الْمَاضِي حَنِينَا.

 


أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ

 


وبعدُ:

أيُّها الإخوةُ، ها قد وقفنا على شيءٍ من أسبابِ عظمةِ هؤلاءِ السادةِ الكبارِ، وهو عظمةُ ما حملوه من هَمٍّ، وارتبطت مشاعرُهم به.

 


فعلى كلِّ واحدٍ منَّا، بعد أن عرَفَ هذا، أن يُسائلَ نفسَهُ: ما الهمُّ والاهتمامُ -أيَّتُها النفسُ- الذي يُهيِّجُ فيكِ المشاعرَ؛ حُبًّا وبُغضًا، وفَرَحًا وحُزنًا؟!

 


فإن أسفرَ الجوابُ عن هَمٍّ واهتمامٍ عظيمٍ، فصاحبُهُ عظيمٌ، وإن أسفرَ الجوابُ عن غيرِ هذا، فحجمُ صاحبِهِ بحجمِ ما أهمَّهُ.

 


ومِمَّا يُلاحَظُ عند كثيرٍ من الناسِ في زمانِنا هذا، تدنِّي الهممِ، فأضحى الرجلُ لا هَمَّ له يُثيرُ أحزانَهُ وأفراحَهُ، إلَّا مُتعَتَهُ وأنسَهُ، أو فوزَ فريقِهِ المفضَّلِ أو خسارتَهُ، أو ضرراً لحقَ أبطالَ مُسلسلِهِ، أو إخفاقَهُ في كسبِ الجولةِ في لُعبتِهِ!

 


من أجلِ كلِّ ذلك، تثورُ الثوائرُ، وتُذرفُ الدموعُ، ويكثُرُ الخِصامُ والجدالُ، وربَّما لم يتَّفقْ يومًا أن حصلَ منهم كلُّ هذا لمآسي المسلمينَ التي تُحيطُ بهم، فلم تُذرفْ من أجلِهم دمعةٌ، ولم يتحشرجْ من أجلِهم صدرٌ، ولم يُخاصِمْ من أجلِهم لسانٌ!

 


ولا يعني كلُّ هذا، ألَّا يكونَ للإنسانِ وقتٌ لمُتعَتِهِ وأنسِهِ وتسليتِهِ، فهذا حقٌّ مشروعٌ، ولكن أن يتحوَّلَ هذا إلى اهتمامٍ يَطغى على كلِّ اهتمامٍ، فهنا يكمنُ الخَللُ الذي يَستوجِبُ التصحيحَ.

 


أيُّها الأخُ المباركُ، هَمُّكَ واهتمامُكَ هو المرآةُ التي إذا وقفتَ أمامَها، عكَسَت حجمَكَ الطبيعيَّ، وهو المعيارُ الذي يكشِفُ عن مستوى عقلِكَ وتفكيرِكَ، فاحرِصْ أن تكونَ ذا هَمٍّ عظيمٍ، حتى تكونَ عظيمًا.

 


وما أصدقَ الشاعرَ حين قال:

 


عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ *** وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

وَتَعظُمُ في عَينِ الصَّغيرِ صِغارُها *** وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

 


هذا، وصلُّوا وسلِّموا على مَن أُمرتم بالصلاةِ والسلامِ عليه، فقال عزَّ من قائلٍ عليمٍ:

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

 


اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين، وارضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدينَ، أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ والتابعينَ، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ

 


اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّرْ أعداءَ الدينِ، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلادِ المسلمينَ..

المرفقات

1763045158_اهتمامك مراتك ( وورد).docx

1763045158_اهتمامك مرآتك ( PDF).pdf

المشاهدات 490 | التعليقات 0