تاج الكرامة ( هدية الإسلام للمرأة)

الشيخ محمد الوجيه
1447/06/20 - 2025/12/11 13:29PM

الخةبة الأولى:

الحمد لله الذي أكرم المرأة بالشرع المبين، ورفع قدرها بالدين القويم، وجعلها أساس الأمة وصانعة الأجيال.

نحمده سبحانه حمداً يتناسب مع عظيم فضله، ونسأله عوناً على كل أمر جليل.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتخذها سبيلاً للعزة والتمكين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أوصى بالنساء خيراً فقال: "استوصوا بالنساء خيراً".

اللهم صل وسلم وبارك على هذا النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد...

​يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].


أيها المؤمنون:
نتناول اليوم موضوعاً عظيماً يلامس أصل كرامة الإنسان وعدالة هذا الدين، وهو مكانة المرأة في شريعتنا السمحة.

إن تاريخ البشرية ليشهد على صفحات مطوية من الإجحاف والظلم لحق المرأة في كثير من الحضارات القديمة، لكن الإسلام جاء بشعلة الحق ونور العدالة ليصحح المسار، ويرفع مكانة هذه الكائنة الشريفة التي هي شريكة في بناء الحياة وأساس في ركائز المجتمع.

لقد كانت المرأة قبل الإسلام، في كثير من المجتمعات، ومنها جزيرتنا العربية، تُعامَل كأداة أو متاع لا يملك حريته.

كانت النظرة إليها نظرة دونية قاسية، مصدر خوف وعار. فمنهم من كان يئد ابنته حية خوفاً من الفقر أو العار، ومنهم من كان يحرمها من الميراث بدعوى أن الميراث لمن يحمل السيف ويذود عن الحمى.

بل الأكثر شناعة من ذلك، في الجاهلية كان منهم من يرثها هي نفسها كجزء من تركة الرجل المتوفى، كأنها جزء من أثاث البيت، فيتزوجها وارثه كرهاً دون رضاها.

لقد كانت كرامتها مسلوبة مهيضة، وحقوقها مهضومة، وذمتها المالية معدومة.

ثم بزغ نور الإسلام الوضاء، فكان أول ما فعله هو رد الاعتبار للأنثى والإنسانة.

لقد جاء القرآن ليؤكد على وحدة الأصل في الخلق والتكليف بين الذكر والأنثى، قال تعالى في سورة آل عمران:
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ... (آل عمران: 195).

هذا الآية تأسيس عظيم يهدم بنيان التمييز الجاهلي. إن قوله تعالى: "مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ" ثم قوله: "بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ"، يُعلن المساواة المطلقة في القيمة الإنسانية والجزاء الأخروي.

فليس هناك تفاضل أو وزن إلا بميزان التقوى والعمل الصالح.

وانظروا كيف انتشل الإسلام المرأة من الهوان إلى ذروة العزة والتكريم.
فقد جاء الحديث النبوي ليجعل بر الأم مقدماً ومرسخاً على بر الأب ثلاث مرات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أبوك»." (متفق عليه).

وكذلك البنت، التي كانت توأد خوفاً وجزعاً، أصبحت سبباً مباشراً لدخول الجنة ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضم أصابعه. (رواه مسلم) فهل بعد هذا التكريم منزلة أعلى؟!

ولم يقتصر التكريم على المكانة المعنوية، بل أقر الإسلام للمرأة حقوقاً مالية ثابتة ومستقلة لم تعرفها الحضارات المعاصرة له. فكان لها حق الميراث؛ قال تعالى: لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (النساء: 7).

لقد ألغى هذا النص عادة الجاهلية بضربة قاصمة، ومنح المرأة نصيباً مفروضاً ومحدداً من قليل المال وكثيره. كما أقر لها الذمة المالية المستقلة؛ فلها حق التملك والتصرف في مالها بكامل حريتها دون الحاجة لإذن زوجها أو وليها.

بل إنها تستطيع أن تتصدق على زوجها وأبنائها من مالها الخاص، قال صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة ابن مسعود عندما سألت عن الصدقة على زوجها: «نعم، ولها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة». (متفق عليه).

كما ألزم الإسلام الرجل بحسن معاملة زوجته إلزاماً شرعياً وأخلاقياً، لتحقيق الحق في المعاشرة الحسنة والكرامة. فقال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 19)، وجعل خيرية الرجل مرتبطة بحسن خلقه مع أهله، فقال صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي». (رواه الترمذي).

وأقر الإسلام حقها الأصيل في اختيار زوجها، وأبطل أي زواج بالإكراه، حيث ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة زوجها أبوها وهي كارهة. (رواه البخاري).

أيها المسلمون:
إن القوامة في الإسلام (في قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ) هي قوامة مسؤولية وحماية ورعاية وإنفاق، وليست قوامة استعلاء واستبداد أو ظلم.
إنها توزيع عادل للأدوار يتوافق مع طبيعة كل طرف ومسؤولياته. فالرجل مكلف بالإنفاق والحماية، والمرأة مكلفة بالرعاية والتربية، ولكل منهما مكانته التي لا يستغني عنها المجتمع.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد...
عباد الله:
انظروا كيف كانت الحضارات السابقة تنتج المرأة المظلومة والمقهورة، التي تُوأد وتُحرم وتُباع.

وحينما جاء الإسلام، فإنه لم يكتفِ بنصوص العدل والتشريع، بل أنتج أعظم نماذج نساء الدنيا في الثبات والشجاعة والعلم والقيادة، نساء كن يفتخرن بإسلامهن ويرفعن راية العزة في وجه كل فتنة واضطهاد.

لم يكن الإسلام قيداً على المرأة، بل كان إطلاقاً لأعظم طاقاتها وإيماناً بعظيم دورها في المجتمع.

ولنا في سير الصحابيات العظيمات خير دليل على أن المرأة المسلمة هي صاحبة المجد والعزة:
لقد ارتقت المرأة في الإسلام سلم التضحية، ففي زمن كان فيه الاعتزاز بالإسلام يعني مواجهة التعذيب، قدمت سمية بنت خياط رضي الله عنها أعظم نموذج للثبات على العقيدة. لقد كانت أول شهيدة في الإسلام، إذ رفضت التخلي عن دينها تحت وطأة التعذيب الشديد من أبي جهل. لم يكن فخرها في حسبها أو مالها، بل كان فخرها الأوحد هو الإسلام والثبات على كلمة التوحيد الخالدة. إن سيرتها تؤكد أن المرأة المسلمة شريكة في التضحية والفداء، وأن العزة الحقيقية تمنحها إياها جذور إيمانها الراسخة.

وانظروا إلى دورها في المشورة وحسن الرأي، لم يقتصر دور المرأة على السمع والطاعة فقط، بل كان يشمل المشاركة الفعالة بالرأي السديد والمشورة الحكيمة. ففي موقف عظيم يوم صلح الحديبية، عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنحر والتحلل، تلكأ الصحابة حزناً، فدخل النبي مهموماً على زوجته أم سلمة رضي الله عنها، فأشارت عليه برأي حكيم أن يخرج وينحر هديه ويحلق شعره أولاً، وعندما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قام الصحابة جميعاً واقتدوا به (متفق عليه).

هذه القصة تبرهن أن المرأة قد تكون قائدة للحل والتدبير في أعظم الأزمات، وأن فطنتها ورجاحة عقلها محل اعتبار للقائد في كل ظرف.

ولم يكن العلم بعيداً عنها؛ بل كانت المرأة رائدة في مجال التعليم والإدارة. الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها كانت من القليلات اللاتي يعرفن القراءة والكتابة في ذلك العصر، وقد وظفت علمها لتعليم النساء، بل والأعظم أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولّاها مسؤولية الحسبة في السوق، أي مراقبة العدل ومنع الغش. (ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب) وهذا يثبت أن الإسلام لا يحجر على المرأة في خدمة المجتمع بالعمل الشريف الذي يتناسب مع كفاءتها.

وكيف ننسى مكانة أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها، التي أصبحت منارة للعلم ومرجعاً لصحابة كبار في الفقه والحديث والفتوى. لقد كانت منبعاً للعلم لا يضاهى. قال عروة بن الزبير : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة شي الله عنها.

وهذا يؤكد أن الإسلام فتح للمرأة أبواب العلم على مصراعيها، وجعلها شريكة في حفظ ونقل التراث النبوي.

يا عباد الله،
إن هؤلاء النسوة لم يكن لديهن إلا فخر الإيمان والالتزام بأحكامه، وقدمن أعظم الدروس في العزة والكرامة. مسؤوليتنا اليوم هي أن نترجم هذا المنهج إلى واقع، وأن نعود إلى هذه النماذج المشرقة، لنعلم أجيالنا أن عزة المرأة في تمسكها بدينها، ورفع مكانتها في عطائها العلمي والأخلاقي والتربوي.

فلنكرم نساءنا وبناتنا، ولنفتح لهن أبواب العلم والمشاركة المعتدلة، ولنحميهن من كل ظلم أو استغلال، لنكون بحق خير أمة أُخرجت للناس.

أيها المؤمنون: كن على بينة من أمركم. واحذرن كل الحذر أن تُصغين لأقوال المخذلين والأصوات النشاز التي تُشوه جمال هذا الدين وعظمته، وتدعي زوراً وبهتاناً أن شريعة الله ظالمة للمرأة.

إن من يشوه الدين ويتمهمه التخلف ما هو إلا ساعٍ لعودة المرأة إلى كهوف الجاهلية الحديثة، حيث تصبح سلعة رخيصة مستباحة. تذكرن دائماً أن عزتكن في حجابكن، وكرامتكن في طاعتكن لربكن. فكن خير خلف لخير سلف، واعتصمن بحبل الله المتين.

​اللهم يا رب العالمين، يا حنان يا منان، نسألك باسمك الأعظم أن تصلح بيوتنا وبيوت المسلمين، وأن تجعلها سكناً ومودة ورحمة.

​اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك. اللهم احفظ نساءنا وبناتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعلهن هاديات مهديات، قارئات عالمات، عاملات بما يرضيك، حافظات لفروجهن، صائنات لأنفسهن.

​اللهم وفق آباءنا وأزواجنا لبر نسائهم، ولحسن معاملتهن، وللقيام بواجب القوامة بالعدل والإحسان، وأن يكونوا خير الرجال لأهليهم.

​اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. اللهم لا تجعل حظ نساء المسلمين من هذا الدين مجرد الأماني، بل اجعلهن قامات في العلم والعمل، وسبّاقات في الخير والبر.

​اللهم ارفع الظلم عن كل مظلومة، وانصر كل ضعيفة، واهدِ كل ضالة. اللهم اهدِ شباب المسلمين وفتياتهم، واجعلهم قرة عين لآبائهم وأمهاتهم، وسلاحاً للإسلام والمسلمين.

​ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وأقم الصلاة

المرفقات

1765448973_DOC-20251211-WA0043..pdf

المشاهدات 378 | التعليقات 0