جريمة هجر القرآن
الشيخ محمد الوجيه
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها وصية الله للأولين والآخرين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
عباد الله، يا أهل القرآن ومعدن الإيمان!
اسمعوا بقلوبكم، فإني أقفُ بين أيديكم أناديكم في زمنٍ تلاطمتْ فيه أمواجُ الفتن حتى صارت عواصف، وتكالبتْ فيه همومُ الدنيا حتى غدتْ سلاسلَ وقواصف.
لقد تزاحمتْ على القلوب وسائلُ الإلهاء وصوارفُ القلوب، حتى غدونا أسرى لشاشاتٍ لامعة، ومتابعاتٍ عابرة. أصبح الجوالُ المُلتحمُ بالكَفِّ هو رفيقَ الدرب في السفر والحضر، وصارت وسائلُ التواصل الاجتماعي خلوةَ المرءِ التي لا يُفارقُها ليله ونهاره.
وبينما نحن غارقون في بحر هذا الإسراف الرقمي، الذي يسرقُ الأوقاتَ ويهدرُ الأعمار، نَسِينا أو تَناسينا المصدرَ الحقيقيَّ لحياةِ الروح، وغذاءَ القلب، ودرعَ النفس! هذا المصدرُ الأبدي هو كتابُ اللهِ تعالى، القرآنُ الكريمُ، نورُ الحياة، وضياءُ القلوب، وحجةُ اللهِ البالغةُ على خلقه.
فواعجباً لحالنا! كيف بمن يتلقى هذا النور ثم يُعرض عنه إلى ظلمات صفحات غير نافعة؟ كيف بمن يُهدى إلى السبيل الأقوم، ثم يتخذُ رنينَ إشعارٍ سبيلاً، وصورةً عابرة دليلاً؟
إنها والله لمصيبةٌ عظيمة، ورزيةٌ كبرى، أن يُؤثِرَ المرءُ فانياتِ وسائلَ الاتصال على باقياتِ آياتِ الوصال! إنها جريمةُ هجرِ القرآنِ الكريم!
فإلى متى يبقى مصحفُ أحدِنا على الرفِّ، بينما هاتفه لا يفارقُ جيبَه؟ وإلى متى نُقدِّمُ متابعةَ الخلق على تلاوةَ الخالق؟
تعالوا بنا اليوم أيها الكرام لنتدبر أشد التحذيرات الواردة في هذا الشأن العظيم، بدءاً بأبلغِ شكوى تُرفعُ يوم القيامة، ونتعرف على أنواع هذا الهجر، لنعلم أين موقعنا في تلك المحاكمة بين يدي الله.
يا عباد الله سيقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لربه يوم القيامة، يرفع شكوى هي جرح في قلب كل مؤمن، حيث يقول الحق تبارك وتعالى واصفا مفردات تلك الشكوى باختصار: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان: 30).
لقد كانت هذه الشكوى في حق المشركين الذين لم يؤمنوا به، ولكن حكمها يشمل كل من ترك واجباً من واجبات القرآن، أو فصلاً من فصول التعامل معه.
فانطر اين موقعك في تلك الشكوى وهل أنت بريئ من التهمة؛ فأعد للسؤال جوابا فأنت أعلم بنفسك.
لقد فصّل أئمة التفسير معنى هذا الهجر، وبينوا أنه لا يقتصر على مجرد ترك التلاوة، بل هو أوسع وأشمل.
فها هو شيخ المفسرين ابن كثير رحمه الله يفصّل أنواع الهجر تفصيلاً جامعاً مانعاً، ليدخل فيه كل تقصير، فذكر أن هجر القرآن يشمل خمسة أنواع: هجر سماعه والإصغاء إليه، وهجر العمل به بترك امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهجر تدبّره وتفهمه، وهجر تحكيمه والعدول عنه إلى غيره من القوانين البشرية، وأخيراً هجر الاستشفاء والتداوي به. فمن ترك أي نوع من هذه الأنواع، فقد أصابته شظية من الهجر المحذَّر منه.
هَجَرُوا كِتابَ اللهِ، وهوَ دَواؤهم ... ماذَا تَرَوْنَ جَزَاءَ مَنْ يَهْجُرْه؟
يا عباد الله، إن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم جاءت لتعزز هذا التحذير، وتؤكد أن القرآن يغدو ويذهب بسرعة لمن لا يتعاهده. فبشأن عاقبة المفرط، يقول صلى الله عليه وسلم محذراً من أن تكون العاقبة وخيمة: "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا" (رواه مسلم).
فيا له من تحذير، فإما أن يكون القرآن شفيعًا لك يوم الموقف العظيم، أو أن يكون خصيماً يشهد عليك بالإعراض والترك.
وإضافة إلى ذلك، حذّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من تفلت القرآن وهروبه نتيجة هجر المراجعة، فشبهه بأسرع شيء يهرب: "تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا" (رواه البخاري ومسلم).
ويتبع ذلك التحذير من عاقبة النسيان الناتج عن التفريط والإهمال، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا" (رواه أبو داود والترمذي وحسنه).
فنسيان الحفظ نتيجة التفريط هو هجر للنعمة وعرضة للعقوبة.
ولقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم صفة الخراب والموت على من هجر التلاوة: "إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ" (رواه الترمذي وحسنه).
وبيّن الفرق بين البيوت بقوله: "مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ" (رواه البخاري ومسلم).
فماذا يعني أن تكون حياتك ميتة، وقلبك خراباً؟ إنها نتيجة طبيعية لهجر ذكر الله وقرآنه.
عباد الله، تذكروا عاقبة الإعراض عن هذا الذكر في الدنيا قبل الآخرة، حيث يقول الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" (طه: 124). المعيشة الضنك هي الشقاء والقلق والاضطراب، وهي جزاء هجر ذكر الله الذي هو القرآن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المؤمنون:
لقد رأى الصحابة والتابعون أن هجر القرآن دليل على مرض القلب وعلامة على قسوته. فهذا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: "لو طَهُرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل". إشارة إلى أن الهجر ناتج عن تلوث القلب وقسوته.
وجعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه القرآن معيارًا للمحبة: "من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله، فلينظر؛ فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله". ومن هجر القرآن فقد نقصت محبته لربه.
وحذّر الضحاك رحمه الله من النسيان فقال: "أي مصيبة أعظم من نسيان القرآن".
ولم يقتصر التحذير على هجر التلاوة، بل شمل هجر التدبر والعمل. فهذا الحسن البصري رحمه الله يحذر من قراءة القرآن دون تأثر: "والله يا بن آدم، لئن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولنَّ في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك". أي أن من قرأ ولم يتأثر بالوعيد، فقد هجره في التدبر.
ويحذر محمد بن كعب القُرَظِي رحمه الله من الإسراع في القراءة دون وعي، فيقول: "لأن أقرأ: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) و (الْقَارِعَةُ) أرددهما، وأتفكَّر فيهما، أحَبُّ من أن أبيت أهُذُّ القرآن".
يا أُمَّةَ القُرآنِ هَلَّا عَوّدتِ ... لِلدَّرسِ والآياتِ حتّى تُبْصِرِي
فالنّورُ كلُّ النّورِ في آياتِهِ ... والخَيْرُ كلُّ الخَيْرِ في مَنْ يَذْكُرُه
فيا أيها المسلمون، إن العلاج هو في العودة الصادقة والملازمة الدائمة: المواظبة على التلاوة اليومية، تعاهد المحفوظ، تدبّر الآيات ولو بوقفة قصيرة، والعمل والامتثال للأوامر والنواهي، وسؤال الله أن يجعل القرآن ربيع قلبك ونور صدرك. فاحذروا عباد الله من أن يشتكيكم نبيكم صلى الله عليه وسلم لرب العزة يوم القيامة.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم ذكرنا منه ما نُسّينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم لا تجعلنا ممن هجر القرآن عملاً أو تلاوة أو تدبراً أو تحكيماً.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1763042298_DOC-20251113-WA0177..pdf