حرّ الصّيْفِ- آيات وعظات-.

أ.د عبدالله الطيار
1447/02/09 - 2025/08/03 04:37AM

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي لمْ يَزَلْ عَلِيمًا حَكِيمًا، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ اللّيْلَ والنَّهَارَ خِلْفَةً لمنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَانَ بِالمؤْمِنِينَ رَحِيمًا، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ هَادِيًا ومُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد: [28].

أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: هَا قَدْ أَقْبَلَ الصَّيْفُ بِحَرِّهِ وَحَرُورِهِ، وَلَفَحَ الْهَجِيرُ الوُجُوهَ، وَزَفَرَت الأَرْضُ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ، والْتَهَبَ شُعَاعُهَا، وتَصَبَّبَ النَّاسُ عَرَقًا، بَلْ تَضَجَّرَ بَعْضُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَلَظَاهَا، وهَذِهِ الظَّوَاهِر يُرْجِعُهَا الْجَاهِلُونَ للأَفْلاكِ الْكَوْنِيَّةِ، والأَجَرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، بَيْنَمَا المؤْمِنُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا آَيَةٌ كَوْنِيَّةٌ، وَسُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ، قَالََ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) آل عمران: [190].
عِبَادَ اللهِ: اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ تَعَاقُبَ اللَّيَالِي والأَيَّامِ وتَبَايُن الفُصُولِ والأَعْوَامِ مَا بينَ بَرْدٍ وحَرٍّ، وجَدْبٍ وَمَطَرٍ، وطُولٍ وقِصَر، شتاءٌ قارسٌ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ، وصَيْفٌ قائظٌ لا يُطَاقُ حَرُّهُ، خَرِيفٌ غَائِمٌ، ورَبيعٌ عَلِيلٌ، وفي هذا تَبْصِرَة وذِكْرَى لَكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وعِبْرَةٌ وعِظَةٌ لكُلِّ حَصِيفٍ لَبِيبٍ، وصدقَ اللهُ العظيمُ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق: [37].

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إِنَّ حَرَارَةَ الصَّيْفِ، وَلَهِيبَ الشَّمْسِ، لَم تَكُنْ لِتَمُرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ دُونَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْهَا الدُّرُوسَ الإِيمَانِيَّة، الَّتِي يُوقِظُ بِهَا الْقُلُوبَ، وَيَطْرُدُ بِهَا الْغَفْلَةَ، وَيَجْلِبُ بِهَا الْخَشْيَةَ، قَالَ ﷺ: (اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فأذِنَ لَها بنَفَسَيْنِ نَفَسٍ في الشِّتاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) أخرجه البخاري (3260) ومسلم (617). فَجَعَلَ حَرَارَةَ الصَّيْفِ تَذْكِيرًا بِنَارِ جَهَنَّمَ- نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا
عِبَادَ اللهِ: وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حَرَارَةِ الصَّيْفِ تَذْكِيرًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ: قَالَ ﷺ: (تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ منهمْ كَمِقْدارِ مِيلٍ -قالَ سُلَيْمُ بنُ عامِرٍ: فَواللَّهِ ما أدْرِي ما يَعْنِي بالمِيلِ؛ أمَسافَةَ الأرْضِ، أمِ المِيلَ الذي تُكْتَحَلُ به العَيْنُ؟- قالَ: فَيَكونُ النَّاسُ علَى قَدْرِ أعْمالِهِمْ في العَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجامًا. قالَ: وأَشارَ رَسولُ اللهِ ﷺ بيَدِهِ إلى فِيهِ) أخرجه مسلم (2846).

انْظُرُوا -رَعَاكُم اللهُ-: كَيْفَ يَتَّقِي النَّاسُ حَرَارَةَ الشَّمْسِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، فَيَلُوذُوا بأماكِنِ الظِّلِّ، ويَهْرَعُوا للأَجْوَاءِ الْبَارِدَةِ، لا سِيَّمَا وَقْت الظَّهِيرَة، إذا انْتَصَفَتْ الشَّمْسُ فِي كَبدِ السَّمَاءِ، وبَلَغَتْ الْحَرَارَةُ أَشُدُّهَا، فلا تَرَى أَحَدًا إلا وَقَدْ اتَّخَذَ مِنَ الْحَرِّ حِجَابًا، قالَ أَحَدُ السَّلَف: (عَجَبًا لِمَن اتَّقَى حَرَّ الصَّيْفِ فِي الدُّنْيَا، كَيْفَ لا يَتَّقِي بِاجْتِنَابِ الذُّنُوبِ حَرَّ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

أيها المؤمنون: ونَحْنُ الآنَ فِي مَساجِدِنَا، نُؤَدِّي صَلاةَ الْجُمُعَةِ، وننعم بالبراد، وهُوَ وقْتُ ذُرْوَةِ الْحَرِّ، وَشِدَّةِ الْقَيْظِ، ثُمَّ سَنَنْصَرِفُ إِلَى البُيُوتِ؛ نَنْعَمُ بالغُرَفِ المكَيَّفَةِ، والأَجْوَاءِ الْبَارِدَةِ في سَيَّارَاتِنَا، وأَسْوَاقِنَا، ومَجَالِسِنَا، فَهَلّا ذَكَّرَنَا هَذا المشْهَد بَيَوْمِ القِيَامَةِ؟ وهُوَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، فَإِذَا كُنَّا الآنَ نَقِيلُ فِي بُيُوتِنَا آَمِنِينَ مِنْ حَرِّ الصَّيْفِ، ولَهِيبِ الشَّمْسِ، فَأَيْنَ سَنَقِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ الَّذِي مَا إِنْ انْتَصَفَ نَهَارُهُ إلا وَقَدْ أَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ثُمَّ تَلا قَوْلَ اللهِ تَعَالى: (أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) الفرقان:[24].

أيُّهَا المؤمنونَ: وإذَا انْصَرَفَ المرْءُ مِنَّا بَعْدَ الصَّلاةِ إلى بيتِهِ، بَادَر إلى شَرْبَةِ مَاءٍ، وهذه هِيَ أُمْنِيَةُ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ- جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ- قَالَ رَبُّنَا: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) الأعراف: [50] وليتأمَّلِ المسلمُ تلكَ الرَّاحةَ التي يجدُهَا إذا انتقلَ مِنْ قَيْظِ الشَّمْسِ لأجواءٍ مُكَيَّفَةٍ، وغُرَفٍ بَارِدَةٍ، فإذا كان هذا نَعِيمُ أهلِ الدُّنْيَا، فكيفَ بنعيمِ أهلِ الجَنَّةِ؟ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) الإنسان: [13].

 بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآَنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآَيَاتِ والذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أُقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الحمدُ للهِ رب العالمين، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّ فِي التعرُّضِ لحَرِّ الشَّمْسِ أذًى لِلْعِبَادِ، وَمَشَقَّةً على النَّاسِ، والوَاجِبُ اتِّقَاءُ هَذَا الْحَرِّ، وعَدَم التَّعَرُّض لَهُ، وخَاصَّةً في أوقاتَ الذُّرْوَةِ، قال ﷺ: إنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذا اشْتَدَّ الحَرُّ فأبْرِدُوا بالصَّلاةِ.) أخرجه البخاري (539) ألا فَلْيَتَّقِ اللهَ عزَّ وجلَّ أَرْبَابُ المؤسَّسَاتِ والمحِلاتِ، فِيمَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الموَظَّفِينَ والعُمَّالِ والْخَدَمِ، وأنْ يُجَنِّبُوهُم الْعَمَلَ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ المبَاشِرَةِ؛ لمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْرِيضِهِمْ لِمَخَاطِرَ شديدة؛ ولمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الأَنْظِمَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَمَلَ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي أَوْقَاتِ الذُّرْوَةِ، قالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة: [32]. أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُجِيرَنَا بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ حَرِّ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَجنودنا، والمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. 

الجمعة 7 /2 /1447هـ

المشاهدات 48 | التعليقات 0