حُسْنُ الْعَهْدِ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ

أنشر تؤجر
1447/05/22 - 2025/11/13 16:48PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ )[آل عمران: 102].

عباد الله : الْإِنْسَانُ مُدَنِيٌّ بِطَبِيعَتِهِ ، لَا يَعِيشُ مُنْعَزِلًا ، بَلْ يُصَادِقُ هَذَا ، وَيَقْضـِي حَاجَةَ هَذَا، وَيَصْنَعُ مَعْرُوفًا لِهَذَا ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُنَاكَ خُلُقٌ جَمِيلٌ، وسُلُوكٌ نَبِيلٌ، بِه تَقْوَى رَوَابِطُ المُجْتَمَعِ ، وتُنْشَرُ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَفْرَادِهِ : إِنَّهُ خُلُقُ حُسْنُ الْعَهْدِ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ.

هَذَا الْخُلُقُ الْكَرِيمُ كَانَ يَتَحَلَّى بِهِ الْقُدْوَةُ الْأُولَى، وَالْأُسْوَةُ الْعُظْمَى نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ، فَسِيرَتُهُ كُلُّهَا نُبْلٌ وجَمَالٌ، وَكُلُّهَا حِفْظٌ لِلْجَمِيلِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ حَتَّى يَذْكُرَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، فَيُحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَيْهَا، فَذَكَرَهَا يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، فَأَدْرَكَتْنِي الْغَيْرَةُ، فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ إِلَّا عَجُوزًا، فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: (لَا وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا؛ وَقَدْ آمَنَتْ بِي وَكَفَرَنِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي وَكَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي مِنْ مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا الْأَوْلَادَ إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ) فَقُلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِـي: لَا أَذْكُرُهَا بِسُوءٍ أَبَدًا. وَكَانَ إِذَا ذَبَحَ شَاةً يَقُولُ: (أَرْسِلُوا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ). وَجَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: (كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ أَنْتُمْ بَعْدَهَا؟) فَقَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ؟ قَالَ: (إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ).

وحَفِظَ ﷺ الِجَمِيلَ لأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ وَقَالَ: (مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ).

كَما حَفِظَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأَنْصَارِ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- جَمِيلَهُمْ حِينَ نَصَـرُوهُ وَآوَوْهُ، وَبَذَلُوا الْغَالِيَ وَالنَّفِيسَ فِي سَبِيلِ دَعْوَتِهِ، وَآخَوْا إِخْوَانَهُمُ الْمُهَاجِرِينَ، وَوَاسَوْهُم بِأَمْوَالِهِمْ، وَآثَرُوهُم عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ).

عِبَادَ اللَّهِ : حِفْظُ الْمَعْرُوفِ وَالِاعْتِرَافُ بِالْجَمِيلِ يَكُونُ لِكُلِّ النَّاسِ ، يَكُونُ لِلْوَالِدَيْنِ، وَلِلزَّوْجَيْنِ، وَلِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا الْوَالِدَانِ فَهُمَا اللَّذَانِ يَسْهَرَانِ لِيَنَامَ أَوْلَادُهُمَا، وَيَجُوعَانِ لِيَشْبَعَ أَوْلَادُهُمَا، وَهُمَا فِي كُلِّ ذَلِكَ مُغْتَبِطَانِ مَسْـرُورَانِ، وَالِاعْتِرَافُ بِجَمِيلِهِمَا يَكُونُ بِبِرِّهِمَا، وَالِإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَتَوْقِيرِهِمَا، وَالْأَدَبِ مَعَهُمَا، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا يَكْدُرُهُمَا ، والدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما ؛ يقول الله تعالى :( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ).

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِيْ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنْ اَلْآَيَاتِ وَاَلْذِّكْرِ اَلْحَكِيْمِ، أَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اَلْلهَ اَلْعَظِيْمَ لِيْ وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُوْرُ اَلْرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَأْنِهِ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وسَلّم تَسْلِيمًا كثيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : الْحَيَاةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ : حَيَاةُ سَكَنٍ وَطُمَأْنِينَةٍ ، وَقَدْ يَقَعُ مَا يُنْغِّصُ الْعَيْشَ ، وَيُكَدِّرُ الْمَعِيشَةَ ، وَيُزَعْزِعُ الْاِسْتِقْرَارَ ، وَحِينَئِذٍ يَأْتِي الْاعْتِرَافُ بِالْجَمِيلِ وَحِفْظُ الْمَعْرُوفِ لِيُعِيدَ السَّكِينَةَ ، وَيَنْشُـرَ الطُمَأْنِينَةَ ، فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَكِدُّ وَيَكْدَحُ ؛ لِيُوفِرَ الْعَيْشَ الْكَرِيمَ ، وَالزَّوْجَةُ هِيَ الَّتِي تَحْفَظُ الزَّوْجَ فِي غَيْبَتِهِ ، وَتُرَبِّي الْأَوْلَادَ ، وَتُوفِّرُ الْهُدُوءَ وَالِاسْتِقْرَارَ ، فَإِذَا أَدْرَكَ الزَّوْجَانِ جَمِيلَ كُلِّ وَاحِدٍ ، نزلت عليهما السَّعَادَةُ والسَّكِينَةُ ؛ يقول الله تعالى :﴿ وَلَا تَنْسَوُوا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾.

ألا فاتقوا الله – رحمكم الله - واِصْنَعُوا الْمَعْرُوفَ لِأَهْلِهِ وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ خُلُقٌ لَكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ رَدَّ الْجَمِيلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِأَدَبٍ وَكَرَامَةٍ ، مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ وَلَا إِهَانَةٍ ، وَإِذَا صَنَعْتَ جَمِيلًا فَاسْتُرْهُ ، وَإِنْ صُنِعَ لَكَ جَمِيلٌ فَانْشُـرْهُ ، وَمِمَّا يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ أَنْ يُقَابَلَ الْجَمِيلُ بِالنِّكْرَانِ ، وَيُقَابَلَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَذَى ، عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ.

هَذَا وصَلُّوُا وسَلِّمُوُا عَلَى المبْعُوْثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ، كَمَا قَالَ رَبُّكُمْ فِيْ كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ...﴾.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُوْلِكَ مُحمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، وارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وصَحَابَتِهِ والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

* اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلَامَ والمُسْلِمِيْنَ، وأَذِلَّ الشِّـرْكَ والمُشْـرِكِيْنَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّيْنِ، واجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا رَخَاءً وسَائِرَ بِلَادِ المسْلِمِيْنَ.. اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِالإِسْلِامِ والمُسْلِمِيْنَ سُوْءً فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ فِيْ نَحْرِهِ، واجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَيْهِ يَا رَبَّ العَالمِيْنَ.

* اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الحَرَمَيْنِ الـشَّـرِيْفَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِهِمْ لِلْبِرِّ والتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِهُدَاكَ واجْعَلْ عَمَلَهُمْ فِيْ رِضَاكَ.

* رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِيْ الآَخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

سُبْحَانَ رَبِّنا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

المرفقات

1763041678_حُسْنُ الْعَهْدِ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ.docx

المشاهدات 704 | التعليقات 0