حفظ الجميل (مشكولة + مختصرة)

صالح عبد الرحمن
1447/02/06 - 2025/07/31 10:08AM

خطبة عن حفظ الجميل (مشكولة + مختصرة)

الخطبة الأولى:

الحمد لله هادي مَنِ استهداهُ، ومجيبِ مَنْ دَعاهُ، أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيلِ عطاياه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لا معبودَ بحقٍ سِواه، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، ومصطفاه ومجتباه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن سار على نهجه، واتبع هداه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا، لا حد لمنتهاه.

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أنَّ أعقلَ الناسِ مَنْ ترَك الدنيا قبلَ أن تترُكَه، واستعدَّ للقاء ربِّه قبلَ أَنْ يُقابِلَه، وأصلَح قبرَه قبلَ أَنْ يَسكُنَه، ومَنْ ترَك ما لا يعنيه، فتَح اللهُ قلبَه، وشرَح له صدرَه، ومَنْ كَثُرَ اعتبارُه قلَّ عِثارُه، والحياة لا تستقيم بكثرة اللوم، ولا تهنأ بكثرة المُؤاخَذات، ومَنْ أكثَر الخصامَ تجرَّأ عليه اللئامُ؛ (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)

معاشرَ المسلمينَ: الإنسانُ مدنيٌّ بطبعه، لا يعيش منعزلًا، بل يعيش متفاعلًا إيجابيًّا، يُصادِق هذا، ويصاحِب هذا، ويقضي حاجةَ هذا، ويصنع معروفًا لهذا، ويُسدي نُصحًا لهذا، ويفعلُ ما يستوجِبُ الشكرَ لهذا.

وإذا كان كذلك -أيها الكرام- فهناكَ سلوكٌ أخلاقيٌّ، وأسلوبٌ اجتماعيٌّ، خُلُق جليل، فيه صلاحُ المجتمع، وتقويةُ روابطه، ونشرُ الأُلفةِ والمحبةِ في أوساطه، سجيةٌ من سجايا الكرام، خُلُقٌ يدل على سلامةِ القلب، وطهارةِ النفس، ونقاءِ السريرة.

هذا الخُلُق الكريم يتحلَّى به أناس كرام، اصطفاهم المولى -عز وجل- للجميل وللمعروف، همُّهم الإسعادُ والمساعدَةُ، لا يريدون جزاءً ولا شكورًا، إنه خُلُق حفظِ المعروفِ، وردِّ الجميلِ، ومقابَلةِ الإحسان بالإحسان؛ (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)

أيها المسلمون: والقدوة الأُولى، والأُسوة العظمى في ذلك نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فسيرتُه كلُّها جَمال، وكلُّها حفظٌ للجميل، مع القريب ومع البعيد، ومع المسلم والكافر.

حفظُ المعروفِ والاعترافُ بالجميل يكون لكلِّ الناسِ، يكون للوالدينِ، وللزوجينِ، وللمعلمينَ، وللناس أجمعينَ.

أمَّا الوالدانِ فَهُمَا اللَّذان يسهرانِ لينامَ أولادُهما، ويجوعانِ ليشبعَ أولادُهما، ويمتنعانِ عن الأكل ليطعمَ أولادُهما، وهما في كل ذلك مغتبطانِ مسرورانِ، والاعتراف بجميلهما يكون ببرهما، والإحسان إليهما، وتوقيرهما، والأدبِ معهما، والبُعْدِ عن كل ما يكدرُهُما؛ (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)

أمَّا الحياة بين الزوجين: فهي حياةُ سكنٍ وطمأنينةٍ، وعيشٍ كريمٍ، وقد يقع ما يُنغِّص العيشَ، ويُكدِّر المعيشةَ، ويُزَعْزِعُ الاستقرارَ، وحينئذٍ يأتي الاعترافُ بالجميل، وحفظُ الفضل والمعروف ليُعِيدَ السكينةَ، وينشرَ الطمأنينةَ، ويحفظَ السعادةَ؛ فالزوج هو الذي يَكِدُّ ويكدحُ؛ ليوفر العيشَ الكريمَ، والزوجةُ هي التي تحفظُ الزوجَ في غيبته، وتربي الأولاد، وتحفظُ المال، وتوفرُ الهدوءَ والاستقرارَ في البيت، فإذا ما أدرَك الزوجانِ جميلَ كلِّ واحدٍ منهما، ومقامَ صاحبِه ظلَّلَتُْهُما السعادةُ، وغشيتهُما السكينةُ؛ (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)

أمَّا المعلمُ فهو الذي يَبذُلُ الجُهْدَ في التعليم، والمتابَعة، والتربية، وسرورُه حينَ يرى التفوقَ في طلابه، والنجابةَ في تلاميذه، وحِفْظُ جميلِه بالاعتراف بفضله، واحترامه، وتوقيره، والدعاءِ له، والحذرِ من إيذائه، والإساءةِ إليه.

يقول أبو حنيفةَ -رحمه الله-: "ما صليتُ منذُ ماتَ شيخي حمَّادٌ إلا استغفرتُ له مع والدي، وإني لَأستغفِرُ لِمَنْ تعلمتُ منه عِلْمًا أو علمتُه علمًا"، ويقول أبو يوسف: "إني لأدعو لأبي حنيفة معلمي قبل أبويَّ"، ويقول الإمام أحمد: "ما بِتُّ منذ ثلاثينَ سنةً إلَّا وأنَا أدعو للشافعيِ وأستغفِر له".

وبعدُ -حفظكم الله-: فردُّ الجميل ينبغي أن يكونَ بأدبٍ وكرامةٍ، مِنْ غيرِ مِنَّةٍ ولا إهانةٍ، والكريمُ أسيرُ صاحبِ الجميلِ، وإذا صنعتَ جميلًا فاستُرْهُ، وإن صُنِعَ لكَ جميلٌ فانشره، ومن الحكم: "انحتوا المعروف على الصخر، واكتبوا الآلام على الرمل؛ فإن رياح المعروف تذهبها".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)

نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله تكفَّل بأرزاق الخلائق وكفَاها، وبيَّن لها طُرُقُ رُشْدِها وهَدَاهَا، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بعثه للناس كافَّة، فأقام الملة، وأشاد بنيانها وأعلاها، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه خيرُ الأمة وأزكاها، وأبرِها وأتقاها، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا دائماً لا يتناهى.

أما بعدُ، معاشرَ المسلمينَ: اصنعوا المعروف لأهله ولغير أهله؛ فإن كان من أَهْلِه فَبِها وَنِعْمَتْ، وإن لم يكن من أهله فأنتُم أهلُه، وإذا صنعتُم المعروفَ فلا تنتظروا الجميلَ، بل اصنعوا المعروفَ؛ لأنَّه خُلُق لكم، والنبيلُ لا ينتظر الاعترافَ بالجميل، ولا أَنْ يُقَابَلَ إحسانُه بإحسانِ مثلِه، ولا يريد بمعروفه جزاءً ولا شكورًا، والتربية على الفضائل تحمي -بإذن الله- من الرذائل.

ألَا فاتقوا اللهَ -رحمكم الله-، واعلموا أن ممَّا يَشُقُّ على النفوس أن يُقابَل الجميلُ بالنكران، ويقابلَ المعروفُ بالأذى، والتنكُّرُ للمعروف يدلُّ على لؤم الطبع، عافانا الله وإيَّاكم من كل خُلُق ذميم، فإن لم تستطع على رد الجميلِ فلا تنكره. 

اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. 

المشاهدات 388 | التعليقات 0