حقوق العلماء
الشيخ د نواف بن معيض الحارثي
الخطبة الأولى : حقوقُ العلماء
الحمدُ للـهِ المحمُودِ على كل حالٍ وفي كل حال، حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه يليقُ بما له من العظمةِ والجلال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الكبيرُ المُتعال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه أكرمَه ربُّه بالنبُوَّةِ والإرسال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وأصحابِه خيرِ صحبٍ وآل، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: ( فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .
عن عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عَمْرِو yقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ r يَقُولُ: «إِنَّ اللَّـهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» خ.م .
عباد الله: المُؤمنُ أسيرُ الحقِّ، الإخلاصُ مطيَّتُه، والصدقُ محجَّتُه، وعلى هذا الطريقِ الأقومِ يقِفُ أعلامٌ ورؤُوسٌ ،يثْـبُتُون في الشدائِد والمُلِمَّات، ويعتصِمون بالحقِّ عند الأزمَات، ويُبصِرون ويصبِرون ويُبصِّرون عند الفتن والابتِلاءات. إنهم علماءُ الشرعِ المُطهَّر -رفع اللـهُ قدرَهم، وأعلى مقامَهم-قائِمون بالحقِّ، مُتمسِّكون بالهُدى، ثابِتون على الجادَّة، مقرونةٌ طاعتُهم مع وُلاة الأمور بطاعة الله ورسولِه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ... ).
عظَّم اللـهُ شأنَهم، واستشهَدَهم على توحيدِه أعظمَ مُستشهَد (شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْـمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
هم المرجِعُ عند السؤال، وإليهم الردُّ عند الاستِشكال (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).
إليهم المفزَعُ في النوازِلِ والفتن والمُدلهِمَّاتِ، وهم الملاذُ في الأزماتِ (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ..)
استنبَطوا أصولَ الأحكام، وضبَطُوا قواعدَ الحلالِ والحرامِ، حاجةُ الناسِ إليهم أعظمُ من حاجتهِم إلى الطعامِ والشراب، مجالِسُهم مجالِسُ فضلٍ وخيرٍ، تُفيدُ العلومَ والحِكَم، وتحفظُ من الغفلة، هم القومُ لا يشقَى بهم جليسُهم.
بحُسن تعليمهم يتخرَّجُ المُتخرِّجون، وبجميل مواعِظِهم يرجِعُ المُقصِّرون. في حكمةِ مسالِكِهم تتجلَّى صلابةُ الإيمانِ، وثباتُ الموقفِ في الخُطوبِ والنوازِل، هم سُرُجُ العباد، ومنارُ البلادِ، هم أولياءُ الرحمن، وغيظُ الشيطانِ يقول الشافعيُّ : "إذا لم يكُن العلماءُ أولياءَ الله، فلا أعرفُ للهِ وليًّا".
بضاعتُهم باقيةٌ بعد موتهم، وأجرُهم جارٍ لهم بعد رحيلِهم، ولهم أجورُ من تبِعَهم وسارَ على طريقِهم .
لا يعرفُ الفتنَ إذا أقبلَت، ولا يقِفُ أمامَها إذا تعاقبَت إلا أهلُ العلمِ الراسِخون الربانيُّون ، يُبيِّنون الحقَّ، ويرُدُّون الشُّبُهاتِ، بهم تحيا قلوبُ أهلِ الحقِّ، وتموتُ قلوبُ أهلِ الزَّيغ ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) لا تغُرُّهم كثرةُ الجُموعِ والأتباع، ولا يُغرِيهم بليغُ المديحِ والثناءِ.
أيها الإخوة: العلمُ ترِكَةُ الأنبياءِ، ورِثَه الصحابةُ y، ثم ورِثَه مِن بعدُ التابِعون، وهكذا جيلاً بعد جيلٍ، إلى أن يشاءُ اللهُ قبضَه، وإن لحملته من أهلِ العلمِ حقوقاً :
إن من حقوقِ أهلِ العلمِ: محبتَهم وموالاتِهم، حبّاً من غير تعصُّبٍ ولا تعسُّفٍ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية: "فيجبُ على المسلمين بعد موالاةِ اللهِ تعالى ورسولِه r موالاةُ المؤمنين، كما نطق به القرآنُ، خصوصاً العلماءَ الذين هم ورثةُ الأنبياءِ" .
إن حبَّ أهلِ العلمِ، وذكرَهم بالجميلِ، ودفعَ قالَـةِ السوْءِ عنهم، وتوقيرَهم من غيرِ ادِّعاءِ عصمَتِهم، من علامات التوفيقِ للمسلم، ولا يصُدَّنَّك حبُّهم أن ترى الحقَّ عند من خالفَهم؛ فحبُّهم من أجل ما خصَّهم به مولاهم من علمٍ وصلاحٍ وتقوى، وبما منحَهم ربُّهم من فضلٍ واستقامةٍ، أما الحقُّ فخُذه أنَّى وجدتَّه .
عبادَ الله: إن من حقوقِ العلماءِ احترامَهم وتوقيرَهم وإجلالَهم، فإن إجلالَهم وتوقيرَهم من إجلالِ اللهِ تعالى وتوقيرِه، وهو من السنةِ، قال r «ليس منَّا من لم يُجِلَّ كبيرَنا، ويرحَم صغيرَنا، ويعرِفْ لعالِمِنا حقَّه» أحمد وغيره
وكان ابنُ عباسٍ يأخذُ بركابِ ناقةِ زيدِ بن ثابتٍ y ويقول: "هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائِنا وكبرائِنا " .
إخوة الإيمان: من أعظمِ حقوقِ أهلِ العلم: حفظُ الألسِنةِ عن الوقيعَةِ بهم أو النَّيلِ منهم بالسيِّئ من القولِ أو العملِ؛ فالنَّيلُ منهم مما هم منه براءٌ أمرٌ عظيم، ونهشُ أعراضِهم بالزُّور والافتِراء مرتَعٌ وخيمٌ. قال عليٌّ t: "من استخفَّ بالعلماء ذهبَت آخرتُه".
ويقول ابنُ عساكرٍ: (اِعْلَمْ أَنَّ لُحُومَ العُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، وَعَادَةَ اللـهِ فِي هَتْكِ أَسْتَارِ مُنْتَقِصِهِمْ مَعْلُومَةٌ، وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِي العُلَمَاءِ بالثَّلْبِ بَلاَهُ اللـهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمَوْتِ القَلْبِ ...) .
ويقول ابنُ حجرٍ في شرحِ حديثِ: «من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ»: "المُرادُ بوليِّ الله : العالِمُ باللـهِ المُواظِبُ على طاعته"، ثم قال:"لا تحكُم لإنسانٍ آذَى وليًّا ثم لم يُعاجَل بمُصيبةٍ في نفسِه أو مالِه أو ولدِه، لا تحكُم عليه بأنه سلِم من انتِقام اللـهِ له؛ فقد تكونُ مُصيبتُه في غيرِ ذلكَ مما هو أشدُّ عليه، كالمُصيبةِ في اللـه". - عياذاً بالله -.
عباد الله: إن أهلَ العلمِ يتعرَّضُون لحَمَلاتِ تشوِيهٍ وموجاتِ استِهزاءٍ منظمةٍ في مقالاتٍ ورُسوماتٍ وعبرَ القنواتِ وغيرها .
إن إضعافَ دورِ أهلِ العلمِ يُؤدِّي إلى عواقِبَ خطيرةٍ في حاضِر الأمةِ ومُستقبلِها، وبخاصَّةٍ مع هذه التطوُّرات المُعاصِرةِ في وسائلِ اتصالاتها وتواصُلِها، وما تموجُ به من تياراتٍ مُضلِّةٍ، وعقائِدَ مُنحرِفةٍ .
إن إضعافَ دورِ العلماءِ الربانيينَ إضعافٌ للمُجتمع، إضعافٌ لمُقاومته أمامَ معاوِلِ الإفسادِ والانحِرافِ ، وكسرٌ لبابٍ عظيمٍ يحولُ بين المجتمعِ وبين الفتنةِ والفسادِ، وايقاعٌ للشبابِ خصوصاً في التيارات الفكريةِ المنحرفةِ ،مما يُؤدِّي إلى الضياعِ، وفُقدانِ الهويَّةِ، وتصدُّرِ الجُهَّال ، والواقعُ خيرُ شاهِدٍ .
وأيُّ تأثيرٍ-يا رعاكم اللهُ-سيبقَى للعالِم في نظرِ الناس؟! وأيُّ تقديرٍ واحترامٍ لعلمِهم وفتاوِيهم وأحكامِهم إذا شغَّبَتْ عليهم السُّفهاءُ، وتطاولَ عليهم من لا خلاقَ له ؟!
وما غابَ أهلُ العلم ولكن غُيِّبُوا، وما قصَّروا ولكن حُجِبُوا، وتصدَّر الجُهَّالُ بل قد صُدِّروا، وأشدُّ من ذلك: أن يتصدَّرَ المُجتمعاتِ أصحابُ اللهو والمُجُون وأضرابُهم من أصحابِ الأفكارِ الصغيرة، والكلماتِ الضعيفةِ ، واللقَطَاتِ السريعةِ في أدواتِ التواصُلِ الاجتماعيِّ ؛ ليكونوا رموزًا، ولتُصنَع منهم قُدوات.
فأين هؤلاءِ من مصابيحِ الدُّجَى، وأعلامِ الهُدى، وحُجَّةِ اللهِ على خلقِه، الآمِرينَ بالمعروف، الناهِين عن المُنكر، الساعِينَ في مصالِح المُسلمين، المهمُومينَ بهُمومِ الأمةِ، حُرَّاسِ الدينِ وأعلامِ الملَّة، يُصلِحون ما فَسَد، ويُقوِّمونَ ما اعوَجَّ، فما أحسنَ أثرَهم على الناس، وأقبَحَ أثرَ الناسِ عليهم.
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ).
بارك الله لي ...
الخطبة الثانية
الحمد لله ..... أما بعد .. فمعاشر المُسلمين:
إن من حقوقِ فقهاءِ الإسلامِ وعلمائِه: طاعتَهم فيما يأمرون به من الدِّينِ، وأن يؤخذَ بالصحيحِ من أقوالِهم، فلا يُتَّبعُ أحدٌ من العلماءِ إلا حيثُ كان متوجِّهاً نحوَ الشريعةِ، قائماً بها، حاكماً بأحكامِها جملةً وتفصيلاً، فإذا خالفَ ذلك في شيءٍ من أقوالِه أو آرائِه لم يُؤخذْ به، فإن من أخَذَ بشواذِّ الأقوالِ ونوادرِ العلماءِ اجتمع فيه الشرُّ كلُّه، والعلماءُ ليس فيهم معصُومٌ، ولا من الخطأِ سالِـمٌ، ويرُدُّ عليهم أخطاءَهم أمثالُهم ونُظراؤُهم من أهلِ العلم، وليس كلُّ من عرفَ القراءةَ والكتابةَ تجرَّد وخطَّأ وصوَّب.
والخلافُ بين أهلِ العلم سُنَّةٌ من سُننِ الله، فلا يجوزُ أن يُتَّخذَ سبيلاً للحطِّ من مكانتِهم، أو الانتِقاصِ من قَدرِهم، مع ما يجبُ من التثبُّتِ في صحَّةِ ما يُنسَبُ إلى العالِم ومُرادِه ومقصَدِه. وليُعلَمْ أن هناكَ فرقًا كبيرًا بين تخطِئةِ العالِم والردِّ عليه، وبين تجريحِه والحطِّ من منزلتِه. والإنصافُ عزيز.
عباد الله: أعظِمْ بالعالِم وأكرِم حين يكونُ قُدوةً في علمِه وعملِه وسَمتِه وزُهده وعفَّتِه وورعِه، وتحرِّي التثبُّتِ فيما يصدُرُ عنه منقولٍ أو رأيٍ أو فتوَىً أو حُكمٍ، مع الترفُّعِ عن بعضِ المجالِسِ وما قد يكونُ فيها من استِدراجٍ أو تلبيسٍ أو مُلتبِس، وما خاصَمَ ورِعٌ قطُّ.... ثم صلوا ...
المرفقات
1758730206_حقوق العلماء.doc
1758730206_حقوق العلماء.pdf