حيرةُ القراراتِ والمصائرِ
يوسف العوض
الخُطْبَةُ الأُولَى
الحمدُ للهِ الَّذي خَلَقَ الإِنسَانَ فِي دَارِ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، وَجَعَلَ لَهُ مَخَارِجَ النُّورِ فِي طَاعَتِهِ وَالإِيمَانِ بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ، أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي الْمُقَصِّرَةَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ سُبْحَانَهُ:﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ فِي دَارِ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، تَتَعَدَّدُ فِيهَا الْمَوَاقِفُ وَالْخِيَارَاتُ، وَتَتَنَوَّعُ فِيهَا الْقَرَارَاتُ وَالْمَصَائِرُ ، فَمَا مِنْ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَى أَحَدِنَا إِلَّا وَهُوَ يُوَاجِهُ قَرَارًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ أَمْرَ زَوَاجٍ أَوْ طَلَاقٍ، تِجَارَةٍ أَوْ عَمَلٍ، سَفَرٍ أَوْ إِقَامَةٍ، دِرَاسَةٍ أَوْ شَرَاكَةٍ، وَكُلُّ ذٰلِكَ لَا يَخْلُو مِنَ الْحَيْرَةِ وَالْقَلَقِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْخَطَأ.
وَهُنَا يَظْهَرُ فَضْلُ عِبَادَةٍ عَظِيمَةٍ مَنْسِيَّةٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، إِنَّهَا الاِسْتِخَارَةُ؛ تِلْكَ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَرْبِطُ الْقَلْبَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُقَدِّرُ الْخَيْرَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الاِسْتِخَارَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ صَلَاةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ تُقَالُ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَكِنَّهَا مَنْهَجُ حَيَاةٍ، وَتَرْبِيَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، وَتَفْوِيضٌ كَامِلٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
هِيَ أَنْ تَعْتَرِفَ بِعَجْزِكَ، وَتُعْلِنَ حَاجَتَكَ، وَتُقِرَّ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ الْخَيْرَ حَيْثُ يَكُونُ، وَأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ يَعْلَمُ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ لَكَ الأَصْلَحَ.
وَقَدْ عَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ الاِسْتِخَارَةَ كَمَا عَلَّمَنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ:
«كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ:
إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ،
وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ».
تَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ هٰذَا الدُّعَاءَ الْعَظِيمَ، كَيْفَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْلِيمِ الْكَامِلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ طَلَبِ الْخَيْرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
كَمْ مِنْ إِنسَانٍ أَحَبَّ أَمْرًا وَسَعَى إِلَيْهِ بِكُلِّ قُوَّتِهِ، ثُمَّ رَأَى بَعْدَ حِينٍ أَنَّ اللهَ صَرَفَهُ عَنْهُ رَحْمَةً بِهِ، وَلَوْ تَمَّ لَهُ لَهَلَكَ!
وَكَمْ مِنْ عَبْدٍ اسْتَخَارَ اللهَ فِي أَمْرٍ فَصَرَفَهُ عَنْهُ، ثُمَّ شَكَرَ رَبَّهُ بَعْدَ سِنِينَ أَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَا أَرَادَ ، قَالَ تَعَالَى:﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ الاِسْتِخَارَةَ لَا تُرَى بِالْمَنَامِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ هِيَ اِنْشِرَاحٌ فِي الصَّدْرِ أَوْ صَرْفٌ عَنْهُ، أَوْ تَيْسِيرٌ فِي الأَسْبَابِ أَوْ تَعْسِيرٌ فِيهَا.
فَكُونُوا فُقَهَاءَ فِي تَعَامُلِكُمْ مَعَ هٰذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ، وَارْضَوْا بِمَا يَقْضِي اللهُ، تَكُونُوا أَغْنَى النَّاسِ قَلْبًا، وَأَسْعَدَهُمْ حَالًا.
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة
الحمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ عِبَادَةَ الاِسْتِخَارَةِ تُنْقِذُ الْعَبْدَ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالاِضْطِرَابِ، وَتَمْلَأُ قَلْبَهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً، وَتَجْعَلُهُ مُطْمَئِنًّا بِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي اخْتَارَ لَهُ الطَّرِيقَ.
فَلَا تَحْزَنْ إِنْ تَأَخَّرَ رِزْقُكَ، أَوْ لَمْ تَتِمَّ خِطْبَتُكَ، أَوْ لَمْ يُقَدَّرْ لَكَ أَمْرٌ كُنْتَ تَتَمَنَّاهُ، فَلَعَلَّ اللهَ صَرَفَهُ عَنْكَ لِشَرٍّ أَنْتَ لَا تَرَاهُ ، وَارْضَ بِمَا اخْتَارَ اللهُ لَكَ، فَإِنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ سِرُّ السَّعَادَةِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا».
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَارْضَنَا بِمَا قَسَمْتَ لَنَا، وَوَفِّقْنَا لِحُسْنِ الاِسْتِخَارَةِ، وَالرِّضَا بِقَدَرِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
المرفقات
1761713286_استخر.docx