خَبَرُ الثَلاثَة ـ عَثْرَةٌ وتَوْبة
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أيها المسلمون: يَتَعَثَّرُ القَوِيُّ، وَيكْبُو الجَوادُ، ويَزِلُّ الكَرِيْمُ. ويُخْطِئُ المُجْتَهِدُ، ويُذْنِبُ الصَّالِحُ، ويَقَعُ في المَعْصِيَةِ صَاحِبُ القَدْرِ الرَّفِيْع. وكُلُّ بَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ.
ومِنَ العَثَراتِ مَا كَانَتْ وقُوداً لِقُوَّةٍ، وانْطِلاقَةً لِحُسْنِ مَسِيْر. ومِنَ العَثَراتِ مَا كانَتْ إِعاقةً وانْحِطاماً وفَشَلاً. فَما عِيْبَ إِنْسانٌ وَقَعَ بِخَطأٍ بادَرَ بالاعْتِذارِ مِنْهُ، وما عِيْبَ إِنْسانٌ وَقَعَ بِذَنْبٍ فَأَسْرَعَ إِلى التَوْبَةِ والإِنابَةِ والنَّدَم {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
وفي حَدِيْثٍ مِن أَحادِيْثِ التَوْبَةِ، وفي واقِعَةِ مِنْ وَقَائعِ عَثَراتِ الكِرامِ، قِصَّةٌ أَثْبَتَها القُرآنُ، حُفِظَتْ تَفَاصِيْلُها بِكُتُبِ السُّنَّة. قِصَّةُ الثَلاثَةِ الذِيْنُ خُلِّفُوا {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
كَعْبُ بنُ مالِكٍ، ومُرارَةُ ابنُ الرَّبِيع، وهِلالُ بنُ أَمَيَّةُ، صَحابَةٌ كِرامٌ، مِن السَّابِقِيْنَ إِلى الإِسْلامِ، لَهُم في الإِسْلامِ سابِقَةُ صِدْقٍ وبَذْلٍ وتَضْحِيَة. فَكَعْبُ بنُ مالِكٍ ممن بايعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيعةَ العَقَبَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وصَاحِباهُ مِمَّنْ شَهِدا بَدْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وكَانَ مِن نَبَئِهِم أَنَّهُم تَخَلَّفُوا عَنْ الخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى غَزْوَةِ تَبُوكٍ، مَعَ عِلْمِهِم بأَمْرِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بالخروجِ إِليها. فَكانُوا بِتَخَلُّفِهِم آثِمِين. رَوى كَعْبٌ رَضْي اللهُ عَنْهُ قِصَّةَ تَخَلُّفِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَوَاقِبِها وتَبِعَاتِها وآثَارِها، في حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ، طَوِيْلٍ، مَلِيءٍ بالعِظَاتِ وَالدُّرُوسِ والعِبَر. حَدِيْثٍ ذُو شُجُونٍ، يأَخُذُ بِقارِئِهِ إِلى الاتِصالِ النَّفْسِيِّ، والقُرْبِ الوِجْدانِيِّ بِعَصْرِ خَيْرِ القُرُون. حَدِيْثٍ، يَجِدُ القَارِئُ نَفْسَهُ مَشْدُوهاً أَمامَ تَتابُعِ أَحْداثٍ وتَوالِيْها، فَيأَخُذُهُ العَجَبُ مِنْها تارةً، ويأَخذُهُ الحُزْنُ تارَةً، ويأَخذُهُ البُكاءُ تارةً، ويأَخذُهُ الفَرَحُ والاسْتِبْشارُ تارةً.
حَدَيْثُ الثَلاثَةِ الذِيْنَ خُلِّفُوا، مِنْ أَوفَرِ الأَحادِيْثِ يُبْصِرُ فيها المُؤْمِنُ ما كَانَ عليهِ أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِيْمانٍ صَادِقٍ، واسْتِجابَةٍ مُطْلَقَةٍ للهِ ولِرَسُولِهِ، وصَبْرٍ ومُصابَرَةٍ، وجِهَادٍ وبذْلٍ وتَضْحِيَة لِدِيْنِ الله. ويُبْصِرُ فِيْه المُؤمِنُ صُوراً مِنَ الابْتِلاءِ الذِيْ مَحَصَ اللهَ بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَى زَكَّاهُم وأَخْلَصَهُم وارْتَضاهُم. فَجِدِيْرٌ بالمُؤْمِنِ أَنْ يُطِيْلِ التَّأَملَ والنَّظَرَ في هذا الحديْثِ، وأَنْ يُعِيْدَ الكَرَّةَ فيهِ بَعْدَ الكَرَّةِ. والحَدِيْثُ جَدِيْرٌ بأَنْ يَكُونَ مُرْتَكَزاً مِنْ المُرْتَكَزاتِ التَرْبَوِيَّةِ التِيْ يَسْتَمِدُّ مِنْها المؤْمِنُ مِدادَ التَزْكِيَةِ للنَّفْسِ، والترْبِيَةِ للأَهْلِ، والتَبْصِيْرِ للجِيْل. وهُوَ حَدِيْثٌ مَحْفُوظٌ في أَصَحِّ كُتُبِ السُّنَةِ، فَقَدْ اتَّفَقَ على صحتِهِ البخاريُ ومُسْلِمُ عليهما رحْمَةُ الله. ولا يَتَّسِعُ مَقامُنا هذا لاسْتِعْرَاضِ الحَدِيْثِ بِتمامِهِ، ولا يَتَّسِعُ للوُقُوْفِ عِنْدَ كُلِّ لَفْتَةٍ مِنْ لَفَتاتِهِ. ولكِنَّها إِشاراتٌ يَهْتَدِيْ بِها اللبِيْبُ، واللبِيْبُ بالإِشارةِ يَفْهُمُ. وكَمْ نَفَعَتْ عِباراتٌ قَلْبَ واعٍ. وكَمْ بَصَّرَتْ كَلِماتٌ عَقْلَ حَصِيْف.
لَقَدْ تَخَلَّفَ كَعْبُ بنُ مالِكٍ رضي الله عنه عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، ولَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُ كَعْبٍ وصَاحِبَيْهِ عَنْ هذهِ الغَزْوةِ لِنِفَاقٍ في قُلُوبِهِم، كَما هُو حالُ المُنافِقِيْن الذِيْن فَرِحُوا {.. بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} وإِنَّما كَانَ تَخَلُّفُهُم بِسَببِ تَفْرِيْطٍ وتَباطُئٍ وتَسْوِيفٍ وكَسَل. وكَمْ أَضاعَ المُتكاسِلُ عَنْ الطَاعَةِ مِنْ فُرَصٍ، وكَمْ فَاتَهُ بِسَبَبِ التَّسْوِيْفِ مِنْ حَسَنَات. قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنهُ: (فَلَّما بَلَغني أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ توَجَّهَ قَافلاً منْ تَبُوكَ، حَضَرَني بَثِّي ـ أَيْ نَزَلَ بِي الهَمُّ والغَمّ ــ فطفقتُ أَتذكَّرُ الكذِبَ. وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخطه غَداً) فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فجئتُ أَمْشي حَتى جَلَسْتُ بيْن يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ فَقالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَك ــ أَيْ أَلْم تكُن قَدْ اشْتَرِيْتَ راحِلَةً تَحْمِلُك؟ ــ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي واللَّه لَوْ جلسْتُ عنْد غيْركَ منْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَني سَأَخْرُج منْ سَخَطه بعُذْرٍ، لقدْ أُعْطيتُ جَدَلاً ـ أَي أُعطِيْتُ لِساناً يُتْقِنُ فَنَّ اصْطِناعِ المَعاذِيْر ــ وَلَكنَّني وَاللَّه، يا رَسُولَ اللهِ، لقدْ عَلمْتُ لَئن حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذبٍ ترْضى به عنِّي، لَيُوشكَنَّ اللَّهُ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَإِنْ حَدَّثْتُكَ حَديثَ صِدْقٍ تجدُ علَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو فِيه عُقْبَى اللهِ. واللَّه ما كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، واللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَر مِنِّي حِينَ تَخلفْتُ عَنك. قَالَ: فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضيَ اللَّهُ فيكَ).
لَقَدْ كَانَ كَعْبٌ صادِقاً مَعَ نَفْسِهِ، صَادِقاً للهِ ولِرَسُولِهِ. ومَنْ كَانَ قَرِيْنَ صِدْقٍ، كَانَ حَلِيْفَ تَوْفِيْقٍ، وأَوَّلُ أَماراتِ الصَّادِقِيْنَ في طَلَبِ التَوْبَةِ، الاعْتِرافُ بالذَّنْبِ والإِقْرارُ بِه. فَما حَمَلَ أَكْثَرُ العُصَاةِ على الإِصْرارِ على الذُّنُوبِ، إِلا مُخادَعَتِهِم لأَنْفُسِهِم، وتَبْرِيْرِهِم لِأَفْعالِهِم، حَتَى ارْتَحَلَتْ وَحْشَةُ الذَّنْبِ مِن القَلْبِ. وزالتِ النُّفْرَةُ مِنْه.
قَالَ كَعْبٌ: (وسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ــ أَيْ مِنْ بَنِيْ عَمِّهِ وعَشِيْرَتُه ــ فَاتَّبعُونِيْ، فَقَالُوا لِي: واللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذنْبتَ ذَنْباً قبْل هذَا، لقَدْ عَجَزتَ في أَنْ لا تَكُون اعتذَرْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بمَا اعْتَذَرَ إِلَيهِ الْمُخَلَّفُون، فقَدْ كَانَ كافِيَكَ ذنْبَكَ اسْتِغفارُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَك. قَالَ: فَوالله ما زَالُوا يُؤنِّبُوننِي حتَّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأَكْذِب نفسْي).
وكَذا يُكُونُ الرأَيُّ الفَاسِدُ مِنَ النَّاصِحِ حِيْنَ يُعْدَمُ الفِقْهُ، وَكَذَا يَكُونُ الأَثَرُ السَّيّئُ للفَتْوَى حِيْنَ يَجْنَحُ صَاحِبُها إِلى تَكَلُّفِ الرُّخَصِ بِحُجَةِ سَماحَةِ الدِّيْن. لَقَدْ نَصَحُوا كَعْباً وأَفْتَوهُ بِما فِيهِ فَسادُ دِيْنِهِ لَو اسْتَجابَ لَهُم.
وكَذا يَكُونُ المُؤْمِنُ حذِراً، يَحْمِيْ حِمى دِيْنِهِ، فَلا يَتَساهَلُ في أَمْرِهِ ولا يَتهاوَنْ. ومَنْ حاذَرَ على دِيْنِهِ وافَى القِيامَةَ آمِناً {.. أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} بارك الله لي ولكم..
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْن
أيها المسلمون: صَدَقَ كَعْبُ بُنُ مالِكٍ رضي الله عَنْهُ في بَيانِ سَببِ تَخَلُّفِهِ، وأَنَّهُ لا عُذْرَ لَه. فَأَثْنَى عليهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِصْدْقِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ قَضاءَ اللهِ فيهِ. فَقالَ: (أَمَّا هذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضيَ اللَّهُ فيكَ).
فَكانَ مِنْ قَضاءِ اللهِ أَنْ ابْتَلاهُ وصَاحِبَيْهِ لِيَخْتَبِرَ صِدْقَهُم. قالَ كَعْبٌ: (ونَهَى رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُسْلِمِينَ عن كَلَامِنَا أيُّها الثَّلَاثَةُ.. فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتَغَيَّرُوا لَنَا حتَّى تَنَكَّرَتْ في نَفْسِي الأرْضُ، فَما هي الَّتي أعْرِفُ، فَلَبِثْنَا علَى ذلكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فأمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وقَعَدَا في بُيُوتِهِما يَبْكِيَانِ، وأَمَّا أنَا، فَكُنْتُ أشَبَّ القَوْمِ وأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أخْرُجُ فأشْهَدُ الصَّلَاةَ مع المُسْلِمِينَ، وأَطُوفُ في الأسْوَاقِ ولَا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ، وآتِيْ رَسُوْلَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَأُسَلِّمُ عليه وهو في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فأقُولُ في نَفْسِي: هلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ برَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أقْبَلْتُ علَى صَلَاتي أقْبَلَ إلَيَّ، وإذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي، حتَّى إذَا طَالَ عَلَيَّ ذلكَ مِن جَفْوَةِ النَّاسِ، مَشَيتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِِْي قَتَادَةَ، وهُوَ ابنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عليه، فَوَاللَّهِ ما رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ..
قالَ كَعْبٌ: حتَّى إذَا مَضَتْ أرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ. إِذا رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأْتِينِي، فَقَالَ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلتُ: أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا ولَا تَقْرَبْهَا)
وقالَ كَعْبٌ: فَبيْنَا أنَا أمْشِي بسُوقِ المَدِينَةِ، إذَا نَبَطِيٌّ مِن أنْبَاطِ أهْلِ الشَّأْمِ، مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بالمَدِينَةِ، يقولُ: مَن يَدُلُّ علَى كَعْبِ بنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ له، حتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا مِن مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّه قدْ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قدْ جَفَاكَ، ولَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ ولَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ. قَالَ: فَقُلتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وهذا أَيْضاً مِنَ البَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بهَا).
إِنَّها صُوَرٌ مِنْ الابْتِلاءِ عَصِيْبَةٌ، هَجْرٌ ومُقاطَعَةٌ واعْتِزالٌ، أًَجْمَع عَلِيْها أَهْلُ المَدِيْنَةِ، التَزَمَ القَيامَ بِها القَرِيْبُ قَبْلَ البَعِيْدِ. واسْتَجابَ لَها زَوْجَةٌ وأَهْلٌ وولد. خَمْسُونَ لَيْلَةً لا تَسَلْ عَنْ آلامِها، كُلُّ لَيْلَةٍ أَحْلَكُ في ظَلامِها مِنْ سالِفَتِها.
وفي أَضْعَفِ مَواقِفِ النَّفْسِ، يَعْمَلُ الأَعداءُ عَمَلَهُم. رِسالَةٌ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ إِلى كَعْبِ: (أَنْ الحَقْ بِنا نُواسِك) وسَواِسُ لَعِيْنَةٌ، فيها تَخْبِيْبٌ لِكَعْبٍ على رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وفيها اسْتِمالَةٌ لِنَفْسِهِ المُتأَلِمَةِ عَلَّهُ أَنْ يَرْغَبَ عَنْ الإِسْلامِ، تَحْتَ دَعْوَى الكَرامَةِ وعِزَّةِ النَّفْسِ. ابْتِلاءاتٌ أَلِيْمَةٌ. ولَكِنَّ اللهَ الذِيْ ابْتَلاهُم، لَطَفَ بِهِم فَعَصَمَهُم، ثُمَّ مَنَّ عَلِيْهِم وتَابَ عَلِيْهِم. قَالَ كَعْبٌ: (فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وأَنَا علَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِن بُيُوتِنَا، فَبيْنَا أنَا جَالِسٌ علَى الحَالِ الَّتي ذَكَرَ اللَّهُ ]قدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بما رَحُبَتْ[ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ، أَوْْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، أبْشِرْ. قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ).
أَنْزَلَ اللهُ على رَسُولِهِ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
لَقَدْ فازَ الثَلاثَةُ بِقَبُولِ التَوْبَةِ، وأَدْرَكُوا ثَوابَ الصَّادِقِيْن. وكَذَا المُوَّفَقُ لا يُقِيْمُ على زَلل، يُجاهِدُ النَّفْسَ في سَبِيْل مَرْضاةِ اللهِ، يُجاهِدُ النَّفْسَ لِتَرْكَبَ رَكْبَ التَّائِبِيْن. أَعْقَبَ اللهُ الآيَةَ التِيْ ذَكَرَ فيها تَوْبَتَهُ عليهِم بِقوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} صِدْقٌ في الأَقْوالِ، وصِدْقٌ في الأَحْوالِ، وصِدْقٌ في المَقاصِدِ والفِعالِ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} اللهم..
المرفقات
1763023339_خَبَرُ الثَلاثَة ـ عَثْرَةٌ وتَوْبة 23ـ 5 ـ 1447هـ.docx