خشبة المقترض من روائع القصص النبوي
عبد الله بن علي الطريف
خشبة المقترض من روائع القصص النبوي 1447/3/20هـ
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَأَشْهَدُ أَلا إله إلا اللهُ وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ صَلْىَ اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسلِيمَاً كَثِيراً.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
أما بعد أيها الإخوة: حديثُنا اليومَ عن قصةٍ من القصصِ النبوي نستلهم منها العظة والعبرة.. فقد روى البخاريُ في صحيحه والإمامُ أحمدُ في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ لِمَنْ أَتَاهُ: إئْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَخَرَجَ [أي: المقترض] فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا [أي سفينةً] لِيَقْدَمُ عَلَيْهِ [للمُقرِضِ] لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا [وذلك لهيجانِ البحرِ وشدةِ الموجِ]، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا [أي حفر فيها حفرة]، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ [أي ورقة يخبر بها صاحبه]، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا [أي أغلقه] ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ [أي بذلت جُهدي واستطاعتي] فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا" [أي جعلتها عندك وديعةً وأمانة]. وفي رواية: "اللهم أد حمالتك".
"فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.. وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، [المقرض لوعده إياه] فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ [وذلك للوعد بينهما فلم يحضر أحد] فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا [أي صاحب القرض] لِأَهْلِهِ حَطَبًا؛ فَلَمَّا نَشَرَهَا [الخشبة] وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ [فقرأها وعرف].. ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ [غير الذي وضع بالخشبة] فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ [يبين سبب تأخره] فقَالَ [المقرض]: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟! قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ [المقرض]: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا".. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَكْثُرُ مِرَاؤُنَا وَلَغَطُنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أَيُّهُمَا آمَنُ.!؟
أيها الأحبة: في هذه القصة صورٌ فذةٌ، ومعانٍ رائعة.. نقف معها بعض الوقفات: الأولى: عند المقرض؛ القرض شرعه الله تعالى، وحثّ عليه رسولُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- توطيدًا لأواصر الأخوة بين المؤمنين، وتحقيقًا لمبدأ التعاون بينهم، ونفع بعضهم بعضًا.. فقَالَ: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ"، قَالَ: "قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ". رواه مسلم 1561. أيها الموسرون: قفوا مع إخوانكم ونفسوا عنهم، واحموهم من الحرام، ببيع العينة والربا، وجشع المقسطين.
الوقفة الثانية: مع المقترض؛ فقد ضرب المثل الأعلى بالحرص على أداء الدين ورد المال إلى صاحبه في وقته المحدد.. بل دفعه حرصه إلى المغامرة في مقاييس الماديين من الناس، فقد وضع المال في خشبة ورمها في اليم، فعل ذلك توكلاً على الله وحرصًا على أداء الحق في وقته، وفي هذا أعظم درسٍ لمن ألقى السمع وهو شهيد.
أين هذا من فئام من الناس أخذوا أموال إخوانهم المسلمين، وأعطوا العهود والمواثيق على الأداء، لكنهم أضمروا في نفوسهم الخبيثة المطل والخديعة والكذب، واختلقوا المعاذير للتملص عن الأداء وهم كثير لا كثرهم الله، واسألوا محاكم التنفيذ عن قضايا هؤلاء. ولقد اتخذ بعض الناس المطل مطية لأكل أموال الناس بالباطل، ووسيلة سهلة للتكسب، يأخذ القرض وقد عقد العزم على عدم رده، فأصبح أهل الأموال لا يثقون بأحد وأمسكوا أيديهم عن إقراض من يتقدّم إليهم.
ولقد غفل هؤلاء الجاحدون عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ". رواه البخاري. وتناسوا عَنْ قول النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا". رواه ابن ماجه عن صُهَيْبُ، وهو حديث حسن. واعلموا أنه لا ينبغي للإنسانِ أن يستدين إلا لحاجة، قال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُخِيفُوا أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ أَمْنِهَا"، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: "الدَّيْنُ". رواه أحمد والحاكم عَنْ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وصححه، وهو حديث صحيح.
الوقفة الثالثة: من يتوكّل على الله فهو حسبه، يقول ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ- في حديث صاحب الخشبة فضل التوكل على الله، وأن من صح توكله تكفّل اللهُ بنصره وعونه.. فالمقرض دفع المال دون شهيد أو كفيل من البشر.. فحقق التوكل عندما رضي بالله شهيدًا وكفيلاً، فرد الله ماله في الخشبة التي أخذها حطبًا لأهله.
وأما المقترض فقد حقّق التوكلَ على الله عندما ذهب لكي يرد الأمانة ويقضي الدين، ولكنه لم يجد مركباً فتحير ماذا يفعل، ثم هداه الله بصدقه إلى أن يضع الألف دينار في الخشبة، ويدفع بها إلى البحر وسط الأمواج المتلاطمة والرياح الشديدة، متوكلاً على ربه محسنًا الظن به، وجعل المال الذي في الخشبة وديعة عند الله قائلاً: اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلاناً ألفَ دينار، فَسَأَلَنِي كَفِيْلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني جَهِدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أسْـتَوْدَعْـتُكَها، اللهم أدِّ حمالتك. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف.
فأي توكل مثلُ هذا.؟! وأية ثقةٍ بالله مثلُ هذه.. وأي حسنٍ للظنِ بالله مثل هذا؟! لقد أحسن هذا الرجل التوكل على الله وصدق معه، لذلك تكفّل الله بعونه وردَ عنه سبحانُه المال إلى صاحبه، ولم يَتْلَفِ المالُ أو يُفْقَدْ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3]. بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وسلم عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن تبعهم بإحسان إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.. أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. وقفتنا الخامسة: أيهما آمن؟! قال أبو هريرة: "ولقد رأيتنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- يكثر مراؤنا ولغطنا: أيهما آمن؟!"، فأيهما آمن؟! موقفان كلُ واحدٍ منهما أجملُ من الآخر، موقف الرجل المقترض الذي خرج في موعد السداد لقضاء دينه، فأتى البحر وانتظر وطال به الانتظار لعل مركبًا يأتي، ولكن هيهات!! لقد اشتدت الريح وتلاطمت الأمواج وصار الإبحار في مثل هذا الجو انتحارًا.. ولما أعيته الحيلة لم يقف عن السعي إلى السداد، فأرسل المال عبر الخشبة متوكلاً على الله، ومع ذلك لم يعتبر ذلك سدادًا لما عليه، فركب البحر عندما هدأ، والتمس صاحبه ليوفيه حقّه.. فلمّا قابله لم يخبره الخبر، بل بادر بسداد ما عليه ولم يسأل: هل وصلت الخشبة وما فيها؟! بل قال: إني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه ثم دفع له الألف دينار.
أما المقرض فلم يسكت ويَقْبَلْ ما ليس له، بل رد عليه ماله وقال: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ". وكان بإمكانه أن يأخذ الألف مرة ثانية ولا يخبره، ولكن هذا الرجل يعلم علم اليقين باطلاع الله عليه.. فأين هذان الرجلان من أناس جعلوا الحلال ما حل باليد، والمباح ما استطاعوا أخذه، لا يبالون في الأموال من أين جاءت أمن حلال أم من حرام!! ونسوا أو تناسوا قول رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ". فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ"، أي وإن كان مسواكاً. رواه مسلم. وقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]. أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن يؤدي الحقوق إلى أهلها، وأن يعيذنا من الظلم والمطل وأن يجعلنا من الراشدين..