خُطبَة بِعِنْوَان: وَقَفَاتٌ تَربَوِيَّةٌ مَعَ سُورَةِ الْعَصْرِ.

رمضان صالح العجرمي
1447/03/26 - 2025/09/18 12:22PM
خُطبَة بِعِنْوَان: وَقَفَاتٌ تَربَوِيَّةٌ مَعَ سُورَةِ الْعَصْرِ.
 
1- مُقَدِّمَةٌ عَنْ أَهَمِّيَّةِ الوَقْتِ.
2- الأَسبَابُ الأَربَعَةُ لِلنَّجَاةِ مِنَ الخُسْرَانِ.
 
(الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ) 
التَّذكِيرُ بأَهَمِّيَّةِ الوَقْتِ، وَبَيانُ صِفَاتِ السُّعَدَاء الذين استَثنَاهُم اللهُ تعالى مِنَ الخُسْرَانِ، أَوْ الإِجَابَةُ عَلَى سُؤالٍ مُهِم وَهُوَ: مَا هِيَ أَسبَابُ النَّجَاةِ مِنَ الخُسْرَانِ؟
 
•مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فهذه وَقَفَاتٌ تَربَوِيَّةٌ مَعَ سُورَةِ الْعَصْرِ؛ وهي سورةٌ مكيةٌ، وعددُ آياتِها ثلاثُ آياتٍ؛ (فهي إِحْدَىٰ ثلاث سورٍ هنَّ أقصرُ السُّورِ من حيث عدد الآيات: العصر، والكوثر، والنصر) ومع قلة عدد آياتها؛ إلا أنها سورةٌ عظيمةٌ في معانيها، بليغة في مبانيها؛ ويكفي أنها تبين أسباب النجاة، وأسباب الخسران
•فهي من السور الجامعة؛ ولهذا ثبت عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ رضي الله عنه - وكانت له صحبة - قَالَ: "كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ." [رواه الطبراني، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة]
•وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "لو تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ؛ لَوَسِعَتْهُمْ"، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: "لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى النَّاسِ إِلَّا هِيَ؛ لَكَفَتْهُمْ".
•موضوع السورة: بيانُ خُسارةِ الناس جميعًا؛ إلا مَنْ اتصف بأربع صفات: (الإيمان، والعمل الصالح، ودعوة الناس إلى الخير والحقِّ، والصبر على الابتلاء في كل ما سبق.)، أو بيانُ: [أصول النجاة]
•مناسبة السورة لما قبلها:
سورة القارعة: تبين انقسام الناس إلى قسمين: أهل السعادة من أهل الجنة، وأهل الشقاوة من أهل النار.
سورة التكاثر: جاءت تبين أسباب الشقاوة؛ وهو: [التكاثر والاشتغال بالدنيا]
وسورة العصر: تبين أسباب الفوز، كيف تنجو وتكون من أهل السعادة؟ {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
 
قَولُهُ: {وَالْعَصْرِ}
•بدأت السورة بالقَسَم؛ فالواو من حروف القسم، والله جل جلاله يقسم بما شاء من مخلوقاته (أما العبد فلا يحلف إلا بالله)، والله عز وجل إذا أقسم بشيء فهو لبيان عظمته، ولبيان منته؛ بمعنىٰ: أنه يلفت نظر العباد بالذي أقسم به، وأقسم عليه.
•وهنا أقسم بالعصر الذي هو الوقتُ، أو العمرُ، أو الدَّهْرُ، أو الزَّمَانُ؛ لبيان شرفه وأهميته، وأنه هو رأس مال الإنسان، وهو الَّذِي تَقَعُ فِيهِ حَرَكَاتُ بَنِي آدَمَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ فالأيام والليالي خزائنُ للأعمال الصالحة؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}
 
•ما هو جواب القسم؟
قَولُهُ: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالإنسان الخاسر: هو ذاك الذي لا يغتنم عمرة ويحافظ على هذه الأربع صفات، وتأمل: قَولَهُ: {لَفِي} يعني هو داخلٌ منغمسٌ في الخسران!
•مهما كان عنده من الجاه والسلطان من غير هذه الأربع صفات فهو في خسران؛ وتأمل: كيف أنه أكد هذه الحقيقة بثلاثة مؤكدات: (القسم، وحرف التوكيد إنَّ، واللام)
•فالخسارة الحقيقية: هي أن يخسرَ الإنسانُ نفسَه وأهلَه يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين}
•تعلمنا هذه الآية: ضرورة اغتنام العمر قبل فوات الأجل؛ رُوِيَ عن بعض السلف قال: "تعلَّمتُ معنى السورةِ من بائع ثلج؛ كان يصيح ويقول: ارحموا مَن يذوبُ رأسُ مالِه، ارحموا مَن يذوبُ رأسُ مالِه؛ فقلتُ: هذا معنى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، يمرُّ به العصرُ فيمضي عمرُه ولا يكتسب، فإذا هو خاسر."، وكَانَ الحَسَنُ رحمه الله يَقُول: "ابْنَ آدَم، إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُك."، وقال أحد السلف: "الأيامُ ثَلاثَةٌ: أَمْسِ قَدْ مَضَى بِمَا فِيهِ، وغدًا لعلك لا تُدْرِكُه، وإنما هو يومُك هذا فاجتهدْ فيه."
•ولذلك كان اهتمام السلف بالوقت عجيب؛ لأنهم يعرفون قيمته؛ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ مِنْ حِرْصِكُمْ عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ"، وكان ابن عياش رحمه الله يقول: "لو سقط من أحدكم درهم لظَلَّ يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي وهو يذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات".
 
قَولُهُ: {إلَّا} أداةُ استثناء تُخرِجُ ما بعدها من الحكم الواقع على ما قبلها، ودائمًا ما بعدها قليل؛ فجميع جنس الإِنسَان فِي خُسْرٍ إلَّا من اتصف بهذه الصفات الأربع؛ (فالحمد لله الذي استنثنىٰ من الخسران؛ فقال: {إلَّا} 
•فَمَنْ هم السعداء الذين استثناهم الله تعالى من الخسران؟ الجواب: هم من اتصفوا بهذه الصفات الأربع: 
 
الصفة الأولى: {إلا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ وهم الَّذين عرَفُوا الْحق وَصَدَّقُوا بِهِ؛ فأول أسباب النجاة، وأول أسباب الفوز والفلاح: الإيمان بالله تعالى؛ وهو التصديق الجازم، والإقرار الكامل، والاعتراف التام بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده العبادة.
•كما يتضمن أركان الإيمان الستة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر؛ خيره وشره))؛ [رواه مسلم] فالجنة لا يدخلها إلا مؤمنٌ؛ قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ.))؛ [رواه مسلم]
 
الصفة الثانية: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ فالعمل الصالح هو برهان الإيمان؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}
 
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده المؤمنين المخلصين.
 
الخطبة الثانية: بقية صفات السعداء الذين استثناهم الله تعالى من الخسران.
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، وأما الصفة الثالثة من صفات السعداء الذين استثناهم الله تعالى من الخسران؛ فهي في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} والحق: هو الشرع؛ فلا ننجو جميعًا حتى نتواصَىٰ بالحق؛ ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالًا لذلك؛ فعن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ رضي اللَّه عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا.))؛ [رواهُ البخاري].
 
الصفة الرابعة: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}؛ لأن الذي يسير في هذا الطريق لابد أن يواجه العقبات فيصبر على الحق ويثبت عليه.
•ومن مراتب الصبر: الصبر على طاعة الله تعالى؛ فالعبادة تحتاج إلى الصبر؛ كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}
•فالصلاة تحتاج إلى الصبر؛ كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}
•والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والتَّواصي بالحق مما يحتاج إلى صبر؛ كما قال تعالى حاكيًا عن لقمان: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
•ومرافقة أهل الصلاح تحتاج إلى صبر؛ كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 
•وهكذا كل العبادات والطاعات تحتاج إلى صبر للمداومة عليها؛ لا سيَّما الأعمال التي تحتاج إلى وقت طويل، وتلك التي تتطلب البذل والعطاء والتضحية فلا ينال العبد ثمراتها بعد الاستعانة بالله تعالى إلا بالصبر والمثابرة؛ فهذا الذي يصبر عن الحرام لا يُسمَّى عفيفًا إلا بعد الصبر والمثابرة على ذلك، والذي يصبر عند لقاء العدوِّ يُسمَّى شجاعًا، والذي يصبر على إخراج المال وزكاته يُسمَّى كريمًا، والذي يصبر على حاله لا يفرح بالمال إذا أتى، ولا يجزع إذا ذهب، فإنه يُسمَّى زاهدًا، والذي يصبر على كتمان السِّرِّ يُسمَّى كاتمًا وحافظًا للسِّرِّ.
 
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده الصابرين عند الضراء والشاكرين عند السراء.
 
#سلسلة_خطب_الجمعة
#دروس_عامة_ومواعظ
(دعوة وعمل، هداية وإرشاد)
قناة التيليجرام
https://t.me/khotp
 
 
 
 
المشاهدات 384 | التعليقات 0