خُطبَة بِعِنْوَان: وَقَفَاتٌ تَربَوِيَّةٌ مَعَ سُورَةِ قُرَيْشٍ.

رمضان صالح العجرمي
1447/05/15 - 2025/11/06 13:21PM
خُطبَة بِعِنْوَان: وَقَفَاتٌ تَربَوِيَّةٌ مَعَ سُورَةِ قُرَيْشٍ.
 
1- مُقَدِّمَةٌ عَنْ قُرَيْشٍ.
2- نِعمَةُ الإِيلَافِ.
3- نِعمَةُ الإِطعَامِ مِنْ الجُوعِ.
4- نِعمَةُ الأَمْنِ مِنَ الخَوْفِ.
 
(الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ) 
التَّذكِيرُ بِنِعَمِ اللهِ تعالى المَذكُورَةِ في هذه السُّورَةِ، وَبَيَانُ صُوَرِ شُكرِهَا.
 
•مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فهذه وَقَفَاتٌ تَربَوِيَّةٌ مَعَ سُورَةِ قُرَيْشٍ؛ وهي سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، وعَدَدُ آياتِهَا أرْبَعُ آيَاتٍ.
•وموضُوعُ هذه السورةِ: يُذَكِّرُنَا اللهُ تعالى في هذه السورة بِثلاثِ نِعَمٍ أنعمَ بها على قُرَيْشٍ وعَلَى غيرِهِم من عباده؛ مما يستوجِبُ شُكرَهُ، وإفرادهُ سبحانه وتعالى وحدَهُ بالعبادةِ؛ فإنَّ سورةَ قُرِيْشٍ: توقِظُ فينا شُكرَ ثلاث نِعَمٍ؛ وَهِيَ: نِعمَةُ الإِيلَافِ، ونِعمَةُ الإِطعَامِ مِنْ الجُوعِ، ونِعمَةُ الأَمْنِ مِنَ الخَوْفِ.
•وسُمِّيَت بهذا الاسم: لوقوع اسم قُرَيْشٍ فيها، ولم يقع في غيرها من السور؛ فمن القواعد البلاغية في القرآن الكريم: [قاعدةُ الانفراد في السُّوَرِ]؛ وهي أنَّ كلَّ سورةٍ من سُوَرِ القرآن الكريم لها بصمتُها التي تنفردُ بها عن غيرِها؛ وهنا مما انفردت به سورةُ قُرَيْشٍ: (ذِكرُ اسم قُرَيْشٍ)
•وقُرَيْشٌ: قبيلةٌ من قبائلِ جزيرة العرب؛ فهم: بَنُو النَّضْر، بنِ كِنانة، بنِ خُزيمة، بنِ مُدرِكة، بنِ إلياسَ، بنِ مُضَرَ، بنِ نَزَارِ، بنِ مَعَدِّ، بنِ عدنانَ؛ فكل من كان من ولد النضر فهو قُرشي؛ وابنُ النَّضْرِ: هو الجدُّ الثاني عشر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو: محمدُ بنُ عبدالله، بنِ عبدالمطلب، بنِ هاشم، بنِ عبد مناف، بنِ قصي، بنِ كِلاب، بنِ مُرةَ، بنِ كعب، بنِ لؤيِّ، بنِ غالب، بنِ فِهرِ، بنِ مالك، بنِ النَّضْر.
•ويكفي قريشًا شَرَفًا أنَّ فيهم النبوةَ، وأنَّ منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح مسلم عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنانَةَ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا مِن كِنانَةَ، واصْطَفَى مِن قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصْطَفانِي مِن بَنِي هاشِمٍ.))؛ [رواه مسلم]
•وسُمٌّيَت قُرَيْشٌ بذلك: 
قيل: نسبةٌ إلى جَدِّهم النَّضْر بن كِنانة، والذي أُطلِقَ عليه لقبُ قُرَيْشٍ؛ لأنه جَمَعَ قبيلةَ قُرَيْشٍ في مكانٍ واحدٍ بعد التَّفرُّق؛ فالتَّقرُّشُ: هو التَّجَمُّعُ والالتئامُ.
وقيل: من القِرشِ؛ لأنهم كانوا أهلَ تجارةٍ يأكلون من مكاسِبِهم.
ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لدابة في البحر من أقوى دوابه يُقَال لها: القرش؛ تأكل ولا تُؤكل، وتعلو ولا تُعلىٰ".
•وقد حباهم الله تعالى أن يكونوا من أهل الحرم؛ فقد فضَّل اللهُ قريشًا: بأنَّ منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ النُّبُوَّةَ فيهم، وَالْحِجَابَةُ فِيهِمْ، وَالسِّقَايَةُ فِيهِمْ، وأنَّ الله نصرهم على أصحاب الفيل، وأنَّ الله تعالى أنزلَ فِيهِمْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ.
 
قَولُهُ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} بدأت السورةُ بأسلوب التعليل؛ فاللام للتعليل؛ ولذلك قالوا: أنَّ هناك محذوفٌ قبل هذه الكلمة؛ 
•قيل: هو متعلق بالسورة التي قبلها؛ أي فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل؛ لأجل أن تألفَ قُرَيْشٌ؛ فيكون المعنى: أن إهلاك أبرهة وجيشه الذين أرادوا هدم الكعبةَ؛ لِأجل إِيلَافِ قُرَيْشٍ، وائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين. 
•وقيل: أن الجَارَّ والمجرور متعلقٌ بفعلٍ مذكورٍ في الآية وهو قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}؛ أي: لأجلِ إِيلَافِ قُرَيْش رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ؛ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الذي كفَلَ لهم الأمنَ، فجعلَ نفوسَهُم تألفُ الرحلةَ، وتنالُ من ورائها ما تنالُ.
•وقيل: أنَّ المَحْذُوفَ تَقْدِيرُهُ: اعْجَبُوا لِعَادَةِ قُرَيْشٍ وَمَا أَلِفُوهُ مِنِ انْتِظَامِ رِحْلَتَيْهِمْ، ومع ذلك تركوا عبادة الله تعالى، وعبدوا الأصنام من دونه!
•ويحتمل ذلك كله؛ لأن القرآن الكريم حمَّال أُوْجُه.
•وَكَأنَّ سائلًا يسألُ: أيُّ إِيلَافٍ هذا؟! فقَال تعالى: {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}؛ حيْثُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَتَانِ، يَرْحَلُونَ في الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَفي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، فَيَمتارَوْنَ ويَتَّجِرُونَ، وَكَانُوا في رِحْلَتَيْهِمْ آمِنِينَ.
•وفيه معنى لطيفٌ: إذْ أنَّ اللهَ تعالى لم يمتن عليهم بالرحلةِ نفسِهَا فقط؛ بل امتَنَّ عليهم بنعمةِ إِيلَافِها، واعتيادُ النُّفُوسِ عليها، مَعَ مَا  فِي السَّفَر مِنَ المَشَاقِّ؛ قال مجاهد رحمه الله: {لِإيلافِ قُرَيْشٍ * إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ} أي: نعمتي على قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ ذلك؛ فلا يشقُّ عليهم رحلةُ الشِّتاءِ ولا الصَّيْفِ.
•فَمِن نِعَمِ اللهِ تعالى على العَبدِ: تهوينُ المشَقَّةِ عليه، وتعوِيدُهُ على عَمَلهِ أو مِهنَتِهِ؛ ولِذَلك تَتَعجَّبُ: عندما تمُرُّ بأصحابِ المِهَنِ الشَّاقَّةِ، والعُمَّالِ والمزارعين؛ فتقولُ فِي نفسِكَ: كيف يُطيقُون هذا ولا يملُّون؟! لو أُعطِيتُ كذا وكذا ما صبرتُ على هذا.! والله عز وجل من لطفه يُيسِّرُ على العباد إلفَ أعمالهم ويهوِّنُهُ عليهم في نفوسهم برحمته سبحانه وتعالى.
•ثُمَّ أرشدَهم الله تعالى إلى شُكرِ هذه النعمةِ العظيمةِ، وغيرِها مِنَ النِّعَمِ؛ فَقَال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}؛ أي: فليوحدوه ويُفردوه بالعبادة، كما جعلَ لهم حرمًا آمنًا وبيتًا محرمًا؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ فمن المفترض: أن يألفون عبادة الله تعالى وحده، كما ألِفُوا رحلة الشتاء والصيف في أمن وأمان!
•والْمُرادُ بِالبَيْتِ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ؛ كَمَا جَاءَ في دَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}
 
قَولُهُ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}
•ثم ذكرَ اللهُ تعالى نعمتين عظيمتين؛ وهُمَا: الإطعامُ مِنَ الجُوعِ، والأمنُ مِنَ الخَوْفِ؛ فمن حازَهُما فقد حازَ الدُّنيَا كُلِّها؛ فعن سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا.))؛ [رواه الترمذي، وابن ماجه]؛ لأن الإنسان بدن وروح؛ فغذاء البدن بِالْإِطْعَامِ، وغذاء الروح بالأمن.
أولًا: نِعمَةُ الإطعامِ مِنْ الجُوعِ؛ قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ}
والطَّعامُ: هو اسمٌ جامِعٌ لكلِّ ما يُؤكَلُ، ويَقَعُ على كُلِّ ما يُساغُ، ويدخلُ فيه حتى الماءُ؛ كما قال تعالى على لسانِ طالوتَ: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}؛ أي: مَن لم يَذُقْ من هذا النَّهَر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ماءِ زَمزَمَ: ((إنَّها طَعَامُ طُعْمٍ، وشفاءُ سُقمٍ.))؛ [رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه]
•هذه النِّعمَةُ التي لا تستقيم الحياةُ إلا بها، ولا تُذكرُ النِّعَمُ إلا وتتصدَّرُها؛ نِعمَةٌ: يستهينُ بها كثيرٌ من النَّاسِ، لكنَّها عند مَن فقَدَها أغلى من الذهب والفضة، نِعمَةٌ: جَعَلَها اللهُ تعالى هِيَ أسَاسُ الحياةِ، نِعمَةٌ: نغفلُ عنها، ولا نشعرُ بقيمَتِها إلا حين نفقِدُهَا، ونَتَجرَّعُ مرَارَةَ الجُوعِ.
•وقوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ}؛ وذلك للتنبيه على أنَّ أمرَ الجُوعِ شديدٌ؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذُ بالله من الجوع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول صلى عليه وسلم يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ.))؛ [رواه أبو داود، وحسنه الألباني]
•والمُنعِمُ هو اللهُ تعالى؛ ولذلك في آياتٍ كثيرةٍ يدعُونا للتأمُّلِ والتفَكُّرِ في أصلِ ومنبَعِ هذه النِّعمَةِ، ومراحلِ تكوينِ وإيجاد هذا الطَّعَام؛ فقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام وهو يُعَدِّدُ نِعَمَ اللهِ تعالى ومظاهرَ ربوبيته: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}
•وهذه النِّعمَةُ كغيرها مِنَ النِّعَمِ تستَقِرُّ وتدومُ بشُكرِ المُنعِمِ سبحانه وتعالى؛ قال الله تعالى: {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ.))؛ [رواه مسلم]
•وَمِن صُوَرِ شُكرِ نِعمَة الطَّعَام: 
1- أن نحمَدَ اللهَ تعالى عليها؛ فعَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا.))؛ [رواه مسلم]
2- أن يُبذلَ منه في وجوه الخير من التصدق به على الفقراء والمساكين؛ قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}، وقال تعالى: {أوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ.))؛ [رواه البخاري]
 
نسألُ اللهَ العظيم أن يُبَارِكَ لَنَا فِي أَقْوَاتِنَا وَأَرْزَاقِنَا وَأَموَالِنَا.
 
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: نِعمَةُ الأَمْنِ مِنَ الخَوْفِ.
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، وَمَعَ النِّعمَةِ الثَّانِيَةِ التي امتَنَّ اللهُ تعالى بها على قُرَيشٍ، وعلى جميعِ الخَلقِ: وَهِيَ نِعمَةُ الأَمْنِ مِنَ الخَوْفِ؛
قوله: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}؛ فَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللهِ، وَلا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، بَيْنَمَا غَيْرُهُمْ يُغَارُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَأْمَنُون؛
•وهذه هِيَ دعوةُ الخليلِ إبراهيمَ عليه السلام لأهل مكة؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
•فجَعَلَ اللهُ تعالى مكةَ بلدًا حرامًا آمنًا إلى يوم الدين؛ كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}
•والعربُ قبلَ الإسَلَامِ كانت تعيشُ في حالةٍ من الفَوْضَىٰ وعدمِ الأمْنِ والاستقرَار؛ نتيجةُ ما يدورُ بينهم من الحروبِ الطاحنةِ، والمعاركِ الشديدةِ، وعلت مكانةُ قُرَيشٍ من بينهم؛ لاحتضانها البلدَ الأمين؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}
•وأقسم الله تعالى بذلك؛ فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} 
•وَالأَمنُ مِنْ أعظَمِ النِّعَم:
1- فقد امتنَّ اللهُ تعالى بهذه النعمة على قومِ سبأٍ فكانوا آمنين في سيرهم ليلًا ونهارًا في قُرَاهُمْ؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}
2- وامتنَّ اللهُ تعالى بالأمن على ثمود قوم صالح عليه السلام، فكانوا ينحتون بيوتَهم في أَمْنٍ من غير خوفٍ؛ كما قال تعالى عنهم: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}
3- ورجَّحَ بعضُ أهل العلم: أن نعمة الأمن أعظم من نعمة الصحة؛ قال الرازي رحمه الله: "سُئِلَ بعضُ العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل؛ والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل. ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجَسَد."
•ولذلك جَمعَ الله تعالى لقريشٍ بَيْنَ نعمة الْإِطْعامِ مِنَ الجُوعِ وَالْأَمْنِ مِنَ الخَوْفِ؛ وإنما قدَّمَ نعمة الْإِطْعامِ: لأن هذه السورة خطاب للمشركين، وعند مخاطبة هؤلاء يحسن البدء بالقليل قبل الكثير، وباليسير  قبل العظيم.
•فالْإِنْسَانُ لَا يَنْعَمُ وَلَا يَسْعَدُ إِلَّا بِتَحْصِيلِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ مَعًا؛ إذْ لَا عَيْشَ مَعَ الجُوعِ، وَلَا أَمْنَ مَعَ الْخَوْفِ، وَتَكْمُلُ النِّعْمَةُ بِاجْتِمَاعِهِمَا؛ وَلِذَا جَاءَ في الحَدِيثِ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا.))
•قيل لأحد الحكماء: ما النعيم؟ قال: "الأمن، فإني رأيت الخائف لا يهنأ بعيش، قيل: زدنا؟ قال: العافية، فإني رأيت المريض لا يهنأ بعيش، قيل: زدنا؟ قال: الشباب، فإني رأيت الهَرِمَ لا يهنأ بعيش".
4- ومِمَّا يبيِّنُ أهمية الأمْنِ: فإن كثيرًا من العبادات لا يتأتى القيامُ بها على وجهها إلا في ظِلِّ الأَمْنِ:
•فالصلاة قال الله تعالى عنها: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}
•ومن شروط وجوب الحج: الأمن، فإذا وجد الإنسان نفقة الحج ولم يكن الطريق إليه آمنًا فلا يجب عليه الحج؛ كم قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
•وَمِنْ أَعظَمِ أَسبَابِ الأَمْنِ: 
1- عبادةُ الله تعالى وحدَه، والاستقامةُ على طاعته، وعدمُ الإشراكِ به شيئًا؛ كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
2- ومنها: الدعاءُ واللجوءُ إلى الله تعالى وحده؛ فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وآمِنْ رَوْعَاتِي.))؛ [رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه]، وكان إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لِمَا تُحِبُّ وترضى، ربُّنا وربُّكَ اللهُ.))؛ [رواه ابن حبان]
3- ومنها: شُكْرُ نِعَمة الله تعالى علينا بالأمن؛ فإنَّهُ بالشُّكرِ تَدُومُ النِّعَمُ وتزدَادُ؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، وبعدمِ شُكْرِ هذة النِّعمَة فإنَّها تزولُ، ويَحِلُّ مَحِلَّهَا الخوفُ وعَدَمُ الأَمَانِ؛ كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
4- ومنها: تَجَنُّبُ أسبَابِ زَعزَعَةِ الأَمْن وعَدَمُ استِقْرَارِه؛
•فقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يتسبَّبَ الإنسانُ فِي فعلٍ يؤدِّي إلى المَساسِ بالأمن والاستقرار؛ ففي الصحيحين عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه، عنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَال: ((لاَ يشِرْ أحَدُكُمْ إلَى أخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ.))، وفي رِوَايةٍ: ((مَنْ أشارَ إلَى أخيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإنَّ المَلائِكةَ تَلْعنُهُ حتَّى يَنْزِعَ، وإنْ كَان أخَاهُ لأبِيهِ وأُمِّهِ.))
•وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ رَوَّعَ مُؤْمِنًا: لَمْ يُؤَمِّنِ اللهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.))؛ [رواه البيهقي]، وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يُرَوِّعَنَّ مُسْلِمًا.))؛ [رواه الطَّبَرَانِيُّ]
•وعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ نَعْلَ رَجُلٍ فَرَوَّعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَوْعَةَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ.))؛ [رواه البَزَّارُ]
•وبوَّب الإمام مسلم في صحيحه: [بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ.]، وبوَّب الإمام النووي رحمه الله، في كتاب رياض الصالحين، كتاب الأمور المنهي عنها: [بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْإِشَارَةِ إلى مُسلِمٍ بسِلَاحٍ ونَحوِهِ، سَوَاءٌ كان جَادًّا أو مَازِحًا.]، وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وقَالَ: ((إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، ولَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، ولَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وتَفْقَأُ الْعَيْنَ.))
 
نسألُ اللهَ العظيم أن يُنعِمَ علينا وعلى جميع بلاد المسلمين بالأمن والاستقرار.
 
#سلسلة_خطب_الجمعة
#دروس_عامة_ومواعظ
(دعوة وعمل،هداية وإرشاد)
قناة التيليجرام:
https://t.me/khotp
 
 
 
المشاهدات 518 | التعليقات 3

.


.


.