خُطبَة بعنوان: وَقَفَاتٌ مَعَ اسمِ الله الحَلِيمِ.
رمضان صالح العجرمي
1447/02/13 - 2025/08/07 11:41AM
خُطبَة بعنوان: وَقَفَاتٌ مَعَ اسمِ الله الحَلِيمِ.
1- مُقَدِّمَةٌ.
2- مَظَاهِرُ اسْم اللَّهِ تَعَالَى الحَلِيمِ.
3- حَظُّ المُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الاسمِ.
(الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ)
التَّذكِيرُ بهَذِه الآثَارِ الإِيمَانِيَّةِ العظيمةِ المترتبةِ عَلَى مُطَالَعَةِ مَظَاهِر اسْم اللَّهِ تَعَالَى الحَلِيمِ، وبيانُ حَظّ المُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الاسمِ.
•مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، نحن على موعد بإذن الله تعالى مع اسم من أسماء الله تعالى الحسنى، تتجلى فيه سعة رحمته بعباده؛ إنه اسم الله تعالى (الحليم) وكثير من الناس يتعامل التعامل الخطأ مع هذه الاسم: فيجعله يتجرأ على محارم الله؛ فهو يفتح لك باب العودة إلى الله؛ لا باب الجرأة على الله.
•وقد ورد ذكره فى القرآن الكريم إحدى عشرة مرة مقترنا مع اسم الغفور ومع اسم العليم وكذا الغني والشكور؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا}، وقال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}، وفي الصحيحين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ يَقُولُ: ((لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ربُّ العرشِ العظيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ))
•ومعناه: هو الذى لا يتعجَّلُ عبادَهُ بالعقوبة؛ فهو سبحانه حليمٌ مع من أشركَ وكفرَ به من خلقه، وحليمٌ مع من عصاه؛ بل يتجاوزُ عن الزلَّاتِ، ويعفو عن السَّيئاتِ. قال ابن القيم رحمه الله: "وهو الحليمُ فلا يعاجلُ عبدَهُ .. بعقوبةٍ ليتوبَ من عصيان"، قال السعدى رحمه الله: "الحليم هو الذى يدرُّ على خلقه النعم الظاهرة والباطنة مع معاصيهم وكثرة زلاتهم؛ فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي يُنيبوا."
•والحِلمُ لا يكون إلا مع القدرة؛ بمعنى: أن الله تعالى قادرٌ على إنزال عقوبته على من خالف أمره وعصاه لكنَّه الحليمُ جل في علاه لا يتعجَّلُ بالعقوبة؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، وقال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وغيرها من الآيات التى تدل على قدرة الله تعالى على إنزال عقوبته بمن عصاه وخالف أمره.
الوقفة الثانية: مَظَاهِرُ اسْم اللَّهِ تَعَالَى الحَلِيمِ.
1- تأمل إلى سعة وعظم حلمه سبحانه وتعالى على الكفار؛ حيث يوجد على هذه الأرض التي هي من مخلوقات الله تعالى ثلاثة أرباع البشر يكفرون بالله تعالى؛ فمنهم: من نسب له الصاحبة والولد! ومنهم: من أنكر وجوده بالمرة؛ كالملحدين وغيرهم! ومنهم: من يعبد آلهة أخرى؛ كمن يعبد النار والبقر وغيرها ممن هى من مخلوقات الله تعالى! قالوا كلامًا عن الله جلَّ جلالُه لم تستحمله السموات ولا الأرض ولا الجبال؛ قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا}
•ومع ذلك يَحلُمُ عليهم ولا يتعجل لهم بالعقوبة؛ بل ولا يمنعهم رزقًا فهو يرزقهم كما يرزق المؤمنَ الطائعَ؛ ففى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُم لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا؛ وَإِنَّهُ لِيُعَافِيهِم وَيَرْزُقُهُم.))، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((قالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَشْتِمُنِي ابنُ آدَمَ، وما يَنْبَغِي له أنْ يَشْتِمَنِي، ويُكَذِّبُنِي وما يَنْبَغِي له، أمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: إنَّ لي ولَدًا، وأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: ليسَ يُعِيدُنِي كما بَدَأَنِي.))
•وتأمل: إلى حِلْمِ الله تعالى على خالد بن الوليد حتى أسلم، وحِلمِه على أبي جهل وغيره من صناديد قريش حتى قُتِلُوا!
2- ثم تأمل الربعَ الباقي من البشر؛ منهم: من يسبُّ الصحابة ويلعنُهم، ومنهم: من يستحلُّ دماءَ المسلمين ممن انتهج أفكار التكفير والتفجير والقتل! ومنهم: من يحاربُ شعائرَ الدين الظاهرة؛ كمن يريد طمس هوية هذا الدين وشعائره الظاهرة! ومنهم: من يدعو إلى الحرية والتبرج والسفور ونشر الفاحشة في المجتمع! ومع ذلك يحلمُ عليهم ويمهلُهُم؛ فما أعظم سعة حلمه جل في علاه!
3- ثم تأمل حال المذنبين المقصرين المفرطين من هذه الأمة؛ فمنهم: الظالم والقاتل والفاجر! ومنهم: من ينشرُ الفاحشةَ ويجاهرُ بفحشه بين المسلمين؛ ومع ذلك لا يؤاخذهم بذنوبهم ويصفح عنهم ويؤجل عقوبتهم رجاء توبتهم عن معاصيهم وهذا من صفات كماله؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة."، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فماتت الدواب؛ ولكن الله تعالى الحليم يأخذ بالعفو والفضل؛ كما قال تعالى: {ويعفوا عن كثير}، وقال سفيان رحمه الله: "كَادَ الْجُعْل أَنْ يُعَذَّبَ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا}
•والصفح عن العصاة وتأجيل عقوبتهم ليس لعجزه عنهم؛ وإنما هو صفح وعفو عنهم؛ رجاء توبتهم عن معاصيهم.
4- ومن مظاهر حِلمِهِ سبحانه وتعالى: أنه يحلم على الظالمين المتجبرين، والطغاة الذين عاثوا في الأرض الفساد وهو ليس بغافل عنهم؛ قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}
•وتأمل حلمَهُ على فرعون الذي قتل الأبناء واستحيَ النساء؛ قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ}
•وحلمه على من قتل أولياء الله؛ قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ}
•رُوِيَ عن أحد السلف؛ وهو عامر بن بهدلة أنه كان في زمن الحجاج بن يوسف، فمر عامرٌ برجلٍ قد صلبه الحجاجُ، فرفع يديه، وقال: يا رب، إن حلمك على الظالمين قد أضر بالمظلومين!! يقول: فذهبت فنمتُ، فرأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن هذا الرجل المصلوب قد دخل الجنة، فرأيت المصلوب في أعلى عليين، وإذا مناد ينادي: (حلمي عن الظالمين أحل المظلومين في أعلى عليين)؛ [ذكره الزمخشري في ربيع الأزهار]
5- ومن مظاهر حلمه سبحانه وتعالى: أنه يرى المقصرين في الواجبات والفرائض في هذه الأمة؛ فمنهم: المضيع للصلاة،ومانع الزكاة، ومنهم: من ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: الغافل عن الذكر ومنهم من هجر القرآن؛ ومع ذلك يحلم عليهم ويمهلهم ويفتح لهم أبواب التوبة؛ قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}، وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}؛ أى حليم عليكم كون الكائنات تسبح لله وأنتم غافلون لا تسبحون!
•وَحِلْمُهُ سبحانه وتعالى لَيْسَ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِمَا يَعْمَلُ عِبَادَهُ مِنْ أَعْمَالٍ؛ بَلْ هُوَ العَلِيمُ الحَلِيمُ الذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ؛ قَالَ تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا}
•وَحِلْمُهُ سبحانه وتعالى عَنْ خَلْقِهِ لَيْسَ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِم إِذْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَحْلُمُ عَنْهُم وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُم؛ قَالَ تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، قال ابن كثير رحمه الله: "حَلِيمٌ غَفُورٌ أن يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه وهو يحلم فيؤخر ويُنْظِر ويؤجِّل ولا يعجل ويستر آخرين ويغفر."
نسأل الله العظيم أن يحسن أخلاقنا، وأن يرزقنا الحلم عند المقدرة، وأن يرزقنا العفو عند القوة.
الخطبة الثانية: ما هو حَظُّ المُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الاسمِ؟
•أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فقد ذكر العلماء في كيفية التعبد لله تعالى بأسماءه وصفاته: أن يعامل كل اسم بمقتضاه وذلك بالاتصاف والتحلي بها على ما يليق به؛ وفي بيان ذلك يقول ابن بطال رحمه الله: "طريق العمل بها أنَّ الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم فإن الله يحب أن يرى حالها على عبده؛ فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها"
1- ولذلك فإنَّ الواجِبَ الأَولَ تَعبُّدًا باسمه (الحَلِيمِ): أن يمرنَ العبدُ نفسَهُ للإتصاف به؛ وذلك بأن يكُونَ حَلِيمًا؛ فكلما ازداد حِلْمًا ازداد حِلْمُ الله تعالى عليه
•فإن الله تعالى يُحبُّ من عباده هذه الصفة؛ فقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَِشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ: ((إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلْمُ وَالأَنَاةُ))؛ [رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه]
•وقد أثنى الله تعالى على عباد الرحمن الذين اتصفوا بهذا الخلق العظيم؛ فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال القرطبي رحمه الله: "فَمِنَ الوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَرَفَ أَنْ رَبَّهُ حَلِيمٌ عَلَى مَنْ عَصَاهُ أَنْ يَحْلُمَ هُوَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ فَذَاكَ بِهِ أَوْلَى حَتَّى يَكُونَ حَلِيمًا؛ فَيَنَالُ مِنْ هَذَا الوَصْفِ بِمِقْدَارِ مَا يَكْسِرُ سَوْرَةَ غَضَبِهِ وَيَرْفَعُ الانْتِقَامَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، بَلْ يَتَعَوَّدُ الصَّفْحَ حَتَّى يَعْودَ الحِلْمُ لَهُ سَجِيَّةً".
•ولذا كان هو خلق جميع الأنبياء والمرسلين ممن اصطفاهم الله تعالى لحمل رسالاته وتبليغ دينه للناس؛ فهذا ابراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، وهذا شعيب عليه السلام قال عنه قومه: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، وهذا إسماعيل عليه السلام جاءت البشارة به: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}
•والحليم لا يغضب؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه بالنصح لمن يستنصحه؛ فعن أَبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِني، قَالَ: ((لا تَغْضَبْ))، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: ((لا تَغْضَبْ)) [رواه البخاري].
•والحِلمُ: أعلى درجات القوة بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ.))، قال ابن القيم رحمه الله: "أى أن مالك نفسه عند الغضب أولى أن يسمى شديدا من الذى يصرع الرجال."
2- الواجبُ الثاني تَعبُّدًا باسمه (الحَلِيمِ): قبول الأعذار من الآخرين؛ لأن الحليمَ سبحانه وتعالى هو أكثرُ من يقبلُ الأعذارَ، ويحبُّ مِنْ خَلقِهِ مَنْ يقبلُ الأعذارَ؛ فَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))؛ [رواه الطبراني في المعجم الكبير]
•وتأمل إلى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وكيف كان يحلم على المشركين؛ حيث خاطبه ربه سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
•والشواهد على حلمه صلى الله عليه وسلم، وقبوله الأعذار لا تحصى؛ فمنها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ."
•ويتربى فى هذه المدرسة النبوية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة؛ فهذا ابن عباس رضى الله عنهما سبَّه رجلٌ، فلما فرغ الرجل، قال ابن عباس لصاحبه عِكرمه: "يا عكرمة هل للرجل حاجةٌ فنقضيها؟" فنكَّس الرجل رأسه واستحَىٰ.!
•وقال أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قال: "هو الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت كاذبًا فغفر الله لك، وإن كنت صادقًا فغفر الله لي."
•وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول لرجل أسمعه كلامًا: "يا هذا لا تغرقنَّ في سبنا، ودع للصلح موضعًا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عزّ وجلّ فيه".
•ودخل عمر بن عبد العزيز رحمه الله المسجدَ ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم، فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: "مه؛ إنما سألني: أمجنون؟ فقلت: لا."
3- الواجب الثالث تَعبُّدًا باسمه (الحَلِيمِ): عدم الاغترار بإمهال الله تعالى وحلمه؛ فلا تغترَّ بكثرة حلم الله عليك! في صحيح مسلم عَنْ أَبي مَسْعُودٍ البَدْرِيُّ رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: ((اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ)) فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ. قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: ((اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ)) قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: ((اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ))، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا. وفي رِوَايَةٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: ((أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ))، أَوْ ((لَمَسَّتْكَ النَّارُ))
•ذكر ابن حجر في الزَّواجِر عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ: أَنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرمَكَ لَمَّا حُبِسَ وَوَلَدَهُ، قَالَ لَهُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ، بَعْدَ العِزِّ صِرْنَا فِي القَيْدِ وَالحَبْسِ.! فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ غَفَلْنَا عَنْهَا، وَلَمْ يَغْفُلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا."
•قال ابن الجوزي رحمه الله: "ﻻ ﺗﻐﺘﺮﻭا ﺑﺴﺘﺮ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻓﺈﻥّ ﻟﻪُ
ﻳَﻮْمًا ﻳﻬﺘﻚ ﻓﻴﻪ اﻷﺳﺘﺎﺭ، ﻭﻳُﺤﺎﺳﺐ ﻋِﺒﺎﺩﻩ على ما ﻋﻤﻠﻮا ﻓﻲ اﻟﻠّﻴْﻞ ﻭاﻟﻨّﻬﺎﺭ."
4- الواجب الرابع تَعبُّدًا باسمه (الحَلِيمِ): دعاءُ اللهِ باسمه (الحَلِيمِ)
•في الصحيحين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ يَقُولُ: ((لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ربُّ العرشِ العظيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ))
نسأل الله العظيم أن يحسن أخلاقنا، وأن يرزقنا الحلم عند المقدرة، وأن يرزقنا العفو عند القوة.
#سلسلة_خطب_الجمعة
#دروس_عامة_ومواعظ
(دعوة وعمل، هداية وإرشاد)
قناة التيليجرام:
https://t.me/khotp