خطبة لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ
حسين بن حمزة حسين
1447/05/26 - 2025/11/17 07:01AM
الحمدُ للهِ شرعَ لنا من الدِّينِ ما فيهِ صلاحُ الدُّنيا والآخرة، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
إخوة الإيمان: قال تعالى (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، روى البخاري ومسلم عن النبيِّ ﷺ أنَّه قال: (لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ) هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الإسلامِ في الوقايةِ من الأمراضِ، ومنعِ انتقالِ الأوبئة والأمراض بإذن الله، فالإسلامُ دينٌ يجمعُ بين الإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ وبين الأخذِ بالأسبابِ؛ فلا يُلغي الحذرُ التوكُّلَ، ولا يُغني التوكُّلُ عن الحذر، ومن حُسن التوكّل الأخذ بأسباب الحذر، قال النبيُّ ﷺ: (فِرَّ مِنَ المجذومِ فِرارَكَ مِنَ الأسدِ) رواه البخاري، ولمّا جاء رجلٌ مجذومٌ يُريدُ أن يُبايِعَ النبيَّ ﷺ، أرسلَ إليه ﷺ وقال: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ) رواه مسلم، وهو سيّد المتوكّلين صلى الله عليه وسلم. سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: كيْف نوفّق بين قوله صلى الله عليه وسلم (لا عَدوى، ولا طيَرةَ، ولا صفرَ، ولا هامَّة فقالَ أعرابيٌّ: ما بالُ الإبلِ تَكونُ في الرَّملِ كأنَّها الظِّباءُ فيخالطُها البعيرُ الأجرَبُ فيُجْرِبُها؟ قالَ: فَمن أعْدى الأوَّلَ) رواه ابوداود وصححه الألباني، وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد) رواه البخاري؟ فأجاب رحمه الله: نوفّق بينهما: بأن النّفي في قوله (لا عدوى ولا طيرة (نفيٌ لما يعتقده أهل الجاهلية، أن العدْوى مؤثرةٌ بنفْسها دون تقدير الله عز وجل فنفى ذلك صلى الله عليه وسلم، وأما الأمر بالفرار من الأسد؛ فهو أمر بالفرار مما يُخشى شرُّه؛ لأن الجُذَام -نسأل الله العافية- من الأمراض المعديةِ السريعةِ العدوى، فالأمر بالفرار منه أمرٌ بالأسباب الواقية، كما نقول مثلاً: اتق النار بالبعد عنها، مع أن قربك من النار وبعدك عنها كله بقضاء الله وقدره. إهـ
إخوة الإيمان: نحنُ نستقبلُ فصلَ الشتاءِ، فصلٌ تكثُر فيه نزلاتِ البرْدِ والإنفلونزا وانتشارِ الأمراضِ المعدية، والواجبُ علينا أن نتحمّل المسؤوليةِ، فلا يحضرُ المريضُ اجتماعات الناس كالمساجد ولقاءات الأهل والأحبة وهو يعلمُ أنَّه مُصابٌ، لئلَّا يُؤذيهم، فكم من إنسانٍ نقل المرضَ وهو يظنُّه على نفْسِه يسيرًا، فأضرَّ بغيره ضررًا شديداً، واعلموا - حماكم الله - أنَّنا حين نمتنعُ عن حضورِ المسجدِ بسبب المرضِ، فإنَّنا نتعامَلُ مع اللهِ الكريمِ العليمِ، الذي يعلمُ حالَ عبدهِ وصدقَ نيتِهِ، وقد قال النبي ﷺ: ( إذا مَرِضَ العبدُ أو سافَرَ، كُتِبَ له مثلُ ما كانَ يعملُ صحيحًا مُقيمًا( رواه البخاري، فمن كان يُصلِّي في المسجدِ ثمَّ مرضَ، كتبَ اللهُ له أجرَ الصلواتِ كلِّها كأنَّهُ صلَّاها في الجماعة، علينا أن نُقدِّم سلامة أهلنا على عواطفنا، وعلى المريض البقاء في منزله، وألّا يحضر المناسبات العائلية في البيوت أو في قصور الأفراح ونحوها، فالسلامة والعافية مقدَّمةٌ على كل اعتبار، فمن الظلمِ والجهلِ أن يكونَ المرءُ بأنانيّتِه سببًا في نشرِ المرضِ بين الأهلِ والأحبة.
ومن الواجبِ كذلك - عبادَ الله- تنظيفُ النَّفسِ، والتحرُّزُ من نقلِ العدوى، ولبسُ الكمامةِ إن احتيجَ إليها، وغسلُ اليدين، وتغطيةُ الفمِ والأنفِ عند العُطاسِ أو السُّعالِ، فذلك من تمامِ الأدبِ والنظافةِ التي حثَّ عليها الإسلام، ومن الأسبابِ النافعةِ كذلك: أخذُ لُقاحِ الإنفلونزا، الذي يُسَّرَتْهُ دولتُنا المباركةُ -حماها الله- مجانًا للجميع، وهو وإن كان لا يمنع المرضَ بالكلية، إلا أنَّه يُضعِفُ حدَّته، ويُخفِّفُ أثرَه، ويحمي بإذنِ اللهِ من مضاعفاتِه.
إخوة الإيمان: إنّ من أفضل أسباب الحماية بإذن الله من الأوبئة والأمراض أذكارُ الصباح والمساء، ومنها: قَولُ الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -أي: حِينَ يُمْسِي- لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ". (رواه أهل السنن وأحمد واللفظ لأبي داود وصححه الألباني، كذلك المحافظة على قراءة آية الكرسي، وقل هو الله أحد، والمعوذتين في الصباح والمساء.... فعطايا وهبات حماية وزيادة حسنات. أقول ما تسمعون ....
الخطبة الثانية:
وأوصي إخوة الإيمان: من أُصيب بالتداوي ولا تداووْا بحرام، ثم بالصَّبرِ على المرض، ولْنرْض بأقدار الله فإن عاقبته إلى خير، قال رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) -: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ -تعالى-"، ) رواه ابوداوود وصححه الألباني
إخوة الإيمان: فليكن فصلُ الشتاءِ موسمَ طاعةٍ، وعبادةٍ، وتعاونٍ على الخيرِ، لا موسمَ غفلةٍ وأمراض، ولنحمدِ اللهَ على نعمةِ العافيةِ، ونسأله دوامَها، فإنَّها تاجٌ على رؤوسِ الأصحّاءِ لا يراه إلا المرضى، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهمَّ احفَظنا من كلِّ داءٍ وبلاءٍ، وادفعْ عنَّا الأوبئةَ والأسقامَ، اللهمَّ اجعلنا من المتعاونينَ على البرِّ والتقوى، واجعلنا من الرُّحماءِ بإخوانِنا وأدم العافية في مجتمعاتنا يارب العالمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين.