خطبة موسى والخضر
الشيخ منصور بن صالح الجاسر
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ الَّذي له ملكُ السَّمواتِ والأرضِ وهُوَ علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أن لَّا إلَهَ إلَّا اللُه وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، يعلمُ ما في السَّمواتِ والأرضِ، ويعلمُ ما تُسرُّونَ وما تُعلِنُون، وأَشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلواتُ ربِّي وسَلامُهُ عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلَّمَ تَسليمًا كثيرًا، أمَّا بَعْدُ :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عظيما ) .
مَعشرَ المسلمينَ : مَن عاشَ مع القرآنِ وتفيَّأَ ظِلَالَهُ وجدَ اللَّذَّةَ ومَن تدبَّرَ آياتِ الله وتأمَّلَها وجَدَ الخشيةَ والعِلْمَ والتَّقوَى، فالمسلمِ حينما يقرأ كتابَ اللهِ ، فعليهِ التَّدبُّرَ والتَّأمُّلَ : (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )).
مَعشرَ المسلمينَ: سَأَقِفُ في هذه اللَّحظاتِ معَكُم في جزءٍ من آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ في سورةٍ نقرؤُها كلَّ جمعةٍ، إنَّها قِصَّةٌ من قصَصِ القرآنِ في أُسْلوبٍ عجيبٍ فريدٍ يَطوِي لكَ الزَّمَانَ ، هذه القِصَّةُ ذُكرتْ في سورةِ الكَهْفِ الَّتِي يُستحبُّ لكلِّ مسلمِ أنْ يقرَأْهَا كلَّ جمعةٍ، قال ﷺ " مَن قرأَ سُورةَ الْكَهْفِ يومَ الجمعةِ، سَطَعَ له نُورٌ مِن تَحْتِ قَدَمِهِ إلى عَنانِ السَّماءِ، وغْفرَ لَهُ ما بَيْن الْجُمعَتْين".
معشرَ المسلمين: إنَّها قِصُّةُ مُوسَى مَعَ الخِضْرِ، وَتَبْدَأُ الْقِصَّةُ لَمَّا ظهرَ موسَى عليه السلام واستقرَّ في أَرْضِ مِصْرَ بَعْدَمَا نَجَّاهُ اللهُ عز وجل وقومَهُ مِن آل فِرعَونَ .
أَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ موسَى أنْ يُذّكِّرَ قومَهُ بنعمةِ اللهِ عليهم، بأنْ نَجَّاهُم مِن فِرعونَ وقومِهِ، فقامَ رجلٌ بعدَمَا انتهَى مُوسى عليه السلام وسَألَ موسَى هلْ هُناكَ أحدٌ أعلمُ مِنك ؟ فقالَ موسى عليه السلام : لا، فعاتَبَ اللهُ موسَى بأنَّه لم يَرُدَّ الأمرَ إليه ، ثم أوحَى اللهُ عز وجل إلى موسَى أنَّ لي عبدًا في مَجمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُو أعلمُ مِنك، فقالَ موسَى: كيفَ لي به يا ربِّ ؟ فقالَ اللهُ عز وجل: خُذْ معكَ حُوتًا فاجعلْهُ في مِكْتَلٍ، فإذا فقدْتَ الحوتَ فَستَجِدْهُ : ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِي حُقُبًا )، ومَعنَى حُقُّبًا، أي: زمنًا طويلًا، ِقيلِ إنَّ المرادَ به : ثمانين سنةً ، ومَجمَعُ البحرينِ إشارةٌ إلى اجتِماعِ العَلَمَيْنِ موسَى عليه السلام والخِضْرِ .
ثم انطلقَ موسَى وفتَاهُ يُوشَعُ بنُ نُونَ حتَّى أتيا صخرةً ووضعا رأسيهما حتَّى تَجاوزا الصَّخرةَ، ثم وضعا رأسيهما وناما، فقامَ الحوتُ واضطربَ وخرجَ، ثم ذهبَ إلى البحرِ : ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) ، فلما جَاوَزَ الْمَوعِدَ ونَسِىَ فتَى موسَى أنْ يُخبِرَ موسَى أنَّهُ فَقَدَ الحوتَ، فقالَ موسَى (آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) ، فأخبرَ فتَى مُوسَى بِما حصل مِن رْجوعِ الحوتِ إلى البحرِ.
فقالَ له موسَى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدًا عَلَى آثارِهِمَا قَصَصًا ).
ثم رَجَعَ موسَى عليه السلام يَقُصُّ الأثَرَ حتَّى أتَيَا صخرةً فإذا رجلٌ مُسَجَّى، فسلَّم عليه موسَى، وقالَ له : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشدًا) ، فبدَأَ موسَى عليه السلام طلبَهُ للعلْمِ مِن الْخِضْرِ بأدبٍ جَمٍ، وهكذَا علَى مَن يَطلُبُ العلمَ، أو يَستفْتِي أهلَ العلمِ أنْ يكونَ ذا أدبٍ.
قالَ الخِضْرُ له : (إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) ، والْخُبْرُ المرادُ به هُنا: العِلمُ، ثم قالَ له كيْفَ تصبرُ على أمورٍ في ظاهِرِها الْمُنْكَرَةِ، ولم تُحطْ به خُبْرًا ؟.
فقالَ موسَى عليه السلام ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) ، وهذا دليلٌ على أنَّ الإنسان إذا أرادَ أنْ يفعلَ شيئًا في المستقبلِ، أنْ يقولَ : إنْ شاءَ اللهُ، ثم اشتَرطَ الخِضْرُ على موسَى أنْ لا يسألَهُ عن شيء حتَّى يُخبِرهُ .
وتَبدأُ الرِّحلَةُ ، وبركبَا سَفِينَةً ، ويَجِيءُ العبدُ الصَّالِحُ فيأخذَ لوحًا من السَّفينةِ فَيَخْرِقَهَا ، لم يتَحمَّل موْسَى ونًسِىَ الوعدَ فأَنْكَرَ على الخِضْرِ ذلك، قالَ كيفَ تّخرقُ سفينةٌ وقد حملُونا بلا أَجرٍ ؟ فذَكَّرَه بالشَّرطِ ( الم أقل إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) ، فاعتَذَرَ موسَى عليه السلام بِالنِّسْيَانِ.
ثم انْطلقَّا حتَّى وصلا قريةً وكانا جائِعين فطَلبَا مِن أهلِهاِ طعامًا، فَأبوا أن يُضَيِّفُوهُمَا ، فوجَدَ الخضرُ وموسَى جدارًا يُريدُ أنْ يَسقُطَ فأَقَامَهُ قالَ له موسَى: ( لَوْ شِئْتَ لا تخذت عَلَيْهِ أَجْرًا ) ، فكانَ هذا هو الفِراقُ كما قالَ: ( هَذَاَ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) ، ثم قَبْلَ أنْ يَنْصرِفَ بدأَ صاحبُ موسَى يُبيِّنُ ويُجَلِّلُ الأمورَ لموسَى عليه السلام ...
فأَمَّا خَرْقُ السَّفينةِ : لإنَّ أَصْحَابَهَا فُقَرَاءُ ، وإنَّ وراءَهم مَلِكٌا يأخذُ كلَّ سفينةٍ سَلِيمٍة غصبًا، فأردتُ أنْ أعيبَها حتَّى لا ينظُرَ إليها .
وأمَّا قتلُ الغلامِ : لِيُبْدِلَهُمَا اللهُ خيرًا منه إذ لو عاشَ هذا الغلام لأرهقَ والِديْه وأتعبَهما بكُفْرِه وذلكَ بعلمِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
وأمَّا الْجِدارُ: فكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المدينةِ، وكانَ تَحتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وكانَ أَبُوهُما صَالحًا ولِذَلِكَ حَفِظَهُما اللهُ بصَلاحِ والِديْهِمَا، ثم بَيَّنَ الخضرُ أنَّ كلَّ هذه الأمورِ مِن أَمْرِ اللهِ، رحمةُ اللهِ علينَا وعلى موسَى ولو صبرَ موسَى لقصَّ اللهُ علينا مِن الخبرِعَجبًا.
مَعشرَ المسلمينَ: هِذه القصَّةُ فيها فوائدُ جمَّةٌ، ووقفَات ٌ- أذْكُرُ بعضًا مِنها :
(1) مشرُوعِيَّةُ الرِّحلَةِ في طلبِ العلمِ، فإنَّ طلبَ العلمِ فريضةٌ علَى كلِّ مسلمٍ. إيَّاك يا عبدَ اللهِ والإعرَاضَ عن العِلمِ وتعلُّمِهِ، فإذَا سَمِعتَ موعِظَةً أو تذْكِيرًا فألْقِ لَها سَمْعَكَ .
(۲) حُسْنُ الْخُلُقِ مَع العَالِمِ وحُسْنُ الأدَبِ في طلَبِ العِلْمِ، فإنَّ الإنسانَ قدْ ُيحرَمُ العِلمَ بسَبَبِ تَكَبُّرِهِ أو عدَمِ أَدَبِهِ.
(۳) التَّواضُعُ مَعَ الْعَالِمِ ، فالإنسَانُ ينْبغِي لهُ أنْ يتواضَعَ مَع العَالِمِ.
(٤) أنَّ أعظمَ شيءٍ يُخْلفُهُ الوالدُ لأولادِه هو صلاحُهُ ؛ فصلاحُ الأبِ سببٌ بإذنِ اللهِ تعالَى لحفظِ الأولادِ .
أقولُ ما تَسمعون واستغفِرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفرُوهُ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا كما أمَر وقد تأذَّن بالزيادَةِ لمن شَكَر. وأَشهدُ أن لَّا إَلَه إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له إرغامًا لمن جَحَدَ وكَفَر، وأَشهدُ أنَّ محمدَا عبدُهُ ورسولُهُ الشَّافِعُ الْمُشفَّعُ في المحشرِﷺ ، وعلَى أصحابِهِ الميامينِ الغُرَرِ. ما اتصلتْ عينٌ ينِظَرِ، وما انقطعتْ أُذُنٌ بِخبَرٍ، وسلَّمَ تَسليمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ :
عِبادَ اللهِ: اتَّقوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ، فإنَّ أجسادَكم على النَّارِ لا تقوى واعلَمُوا أنَّ يدَ اللهِ معِ الجماعَةِ ومَن شَذَّ شَذَّ في النَّارِ.
مَعشرَ المسلمين : ومِن الفوائِدِ والْوَقفَاتِ أَيْضًا :
(1) أنْ لا يَعجبَ المرءُ بعلْمِهِ وأنْ لا يَستكبِرَ عنْ شيءٍ لا يعرفُهُ أنْ يَتعَلَّمَهُ ...
(۲) أَخْذُ الزَّادِ في الأسفارِ والاحتياطُ في ذلكَ .
(۳) جوازُ الإجارَةِ ، فهيَ نوعٌ مِن أَنْواعِ البٌيُوعِ .
(4) أنْ يعلمَ المرءُ علمًا يقينًا أنَّ قضاءَ اللهِ خيرٌ له ، كما قالَ ﷺ :"وأنْ تؤمِنَ بالقضاءِ والقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ "، وفي روايةٍ " حُلْوِهِ ومُرِّهِ" .. اعلَمْ يا عبدَ اللهِ أنَّ قضاءَ اللهِ لكَ أو عليكَ هو خيرٌ لكَ (( ولا تَحْسَبُوهُ شرا لَكُمْ )).
فعلَى المسلمِ أنْ يتأَمَّلَ ذلكَ ويَعلمَ أَلطَافِ اللهِ عزَّ وجلَّ عليه ..
ثُمَّ صلُّوا وسلَّموا علَى مَن أَمَركُم اللهُ بالصَّلاةِ عليه. اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عنْ الْخُلفَاءِ الأربعَةِ، وعنَّا مَعَهم بفضلِكَ وجودِك وإحسانِك يا ذا الجلالِ والإكرامِ اللَّهمَّ أصِلحْ أحوالَنا، اللَّهمَّ وفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّ وتَرضَى اللَّهمَّ أَصْلِحْ قُلوبَنَا. اللَّهمَّ سَدِّدْ آرَاءَنا وأَعمَالَنا يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
اللَّهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ أنْ نَقُولَ زُورًا أَوْ أَنْ نَغْشَى فَجُورًا، اللَّهمَّ يا ذا الجلال والاكرام ، يا حيُّ يا قَيُّومُ نسألك أنْ تَخْتم لنا بِخيرٍ، وأَنْ تَجعَلَ عَواقِبَ أُمُورِنَا إلى خَيرٍ.
اللَّهمَّ اجْعَلْ عَواقِبَ أُمُورِنَا إلى خيرٍ يا حيُّ يا قيُّومُ. اللَّهمَّ اجْعَلْ خيرَ أَيَّامِنا يومَ أَنْ نَلْقَاكَ، وخَيرَ أيَّامِنا أخِرَهَا يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
(( سُبْحَانَ رَبِّكَ رب الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * ))
((وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) ، وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ على أَشْرَفِ الأنبِيَاءِ والمرسلِين.
عِبادَ اللهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )).
فاذْكُرُوا اللهَ الْجلِيلَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدُّكُم، ولَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1756868707_خطبة موسى والخضر.docx
1756868719_خطبة موسى والخضر.pdf