خطبةٌ نفِيسةٌ، كتَبها شيخُ الإسلام ابن تيمية. 3/4/1447
أحمد بن ناصر الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ, ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ, الْعَالِمِ بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ, الَّذِي: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الَّذِي {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}, الَّذِي دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ فِي إلَهِيَّتِهِ أَجْنَاسُ الْآيَاتِ, وَأَبَانَ عِلْمُهُ لِخَلِيقَتِهِ مَا فِيهَا مِن إحْكَامِ الْمَخْلُوقَاتِ, وَأَهْدَى بِرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ نِعَمَهُ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ، لَا يُحْصِي الْعِبَادُ ثَنَاءً عَلَيْهِ, بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ لِمَا لَهُ مِن الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْكَمَالِ, وَصِفَاتِ الْجَلَالِ, الَّتِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِن الْمَوْجُودَاتِ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ, وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.
أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ, لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ, مُبَشِّرِينَ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ, بِغَايَةِ الْمُرَادِ مِن كُلِّ مَا تُحِبُّهُ النُّفُوسُ وَتَرَاهُ نَعِيمًا, وَمُنْذِرِينَ لِمَنْ عَصَاهُمْ, بِاللَّعْنِ وَالْإِبْعَادِ وَأَنْ يُعَذَّبُوا عَذَابًا أَلِيمًا.
وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَصَفْوَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الشَّاهِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ, الْهَادِي السِّرَاجِ الْمُنِيرِ, الَّذِي أَخْرَجَ بِهِ النَّاسَ مِن الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ.
بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ الْمَنَاهِجِ والشِّرَعِ، وَأَحْبَطَ بِهِ أَصْنَافَ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبَاءِ، وَجَعَلَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِن كُتُبِ السَّمَاءِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَمَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, أَرْسَلَهُ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ, أَرْسَلَهُ وَالنَّاسُ مِن الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ, فِي أَقْبَحِ خَيْبَةٍ وَأَسْوَأِ حَالٍ, فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ, وَهَدْيِ الْعَالَمِينَ, وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ, حَتَّى طَلَعَتْ شَمْسُ الْإِيمَانِ، وَأَدْبَرَ لَيْلُ الْبُهْتَانِ، وَعَزَّ جُنْدُ الرَّحْمَنِ، وَذَلَّ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَظَهَرَ نُورُ الْفُرْقَانِ, وَاشْتَهَرَتْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَأُعِلْنَ بِدَعْوَةِ الْأَذَانِ، وَاسْتَنَارَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلُ الْبَوَادِي وَالْبُلْدَانِ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ, صَلَاةً يَرْضَى بِهَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ, وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَقْرُونًا بِالرِّضْوَانِ, أَمَّا بَعْدُ:
[فَاتقوا الله عباد الله, وتمسّكوا بهذا الدّين العظيم، واسْلُكوا صِرَاطَ اللهَ المستقيم]، فإنَّهُ لَا سَعَادَةَ لِلْعِبَادِ، وَلَا نَجَاةَ فِي الْمَعَادِ, إلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم, {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}, فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قُطْبُ السَّعَادَةِ الَّتِي عَلَيْهِ تَدُورُ، وَمُسْتَقَرُّ النَّجَاةِ الَّذِي عَنهُ لَا تَحُورُ, فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ}, وَإِنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ, فَلَا عِبَادَةَ إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِي دِينِ اللَّهِ, وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ عَن سَبِيلِهِ, وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ}.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعَهُ, فِي نَحْوٍ مِن أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا مِن الْقُرْآنِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
فَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ الْكَفْرُ مِن الْإِيمَانِ، وَالرِّبْحُ مِن الْخُسْرَانِ, وَالْهُدَى مِن الضَّلَالِ، وَالنَّجَاةُ مِن الْوَبَالِ، وَالْغَيُّ مِن الرَّشَادِ، وَالزَّيْغُ مِن السَّدَادِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُتَّقُونَ مِن الْفُجَّارِ.
فَالنُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ, فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا, وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ.
فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ, فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِه,ِ إذْ هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِن الْعَذَابِ الْأَلِيمِ, وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ, وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ, إذْ لَا يَكْفِي مِن ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ.
وَقَامَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ وَالنُّقَّادُ, بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ، فَسَافَرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْبِلَادِ، وَهَجَرُوا فِيهِ لَذِيذَ الرُّقَادِ، وَفَارَقُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ.
وَعِلْمُ الْإِسْنَادِ وَالرِّوَايَةِ: مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا إسْنَادَ لَهُمْ، وَهَكَذَا الْمُبْتَدِعُونَ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا الْإِسْنَادُ لأَهْل الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ, وَالْمُعْوَجِّ وَالْقَوِيمِ, وَغَيْرُهُمْ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكُفَّارِ, إنَّمَا عِنْدَهُمْ مَنْقُولَاتٌ بِغَيْرِ إسْنَادٍ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ فِيهَا الْحَقَّ مِن الْبَاطِلِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ, وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ: فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنهُمْ وَالدِّينِ, هُمْ مِن أَمْرِهِمْ عَلَى يَقِينٍ، عَصَمَهُمْ اللَّهُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ فِي دِينِ اللَّهِ.
[نسأل الله تعالى أن يثبّتنا على الدّين, وأن يهدينا ويهديَ ضالّ المسلمين, إنه على كل شيء قدير].
***************
[الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: معاشر المسلمين]، إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوْلِ بِحُكْمٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا حَقًّا، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى تَصْحِيحِ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا صِدْقًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُمْ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنهُ، لَمَّا صَدَقُوا فِي مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمُعَادَاةِ مَنْ عَدَلَ عَنهُ, قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنهُ}.
وَأَهْلُ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْظَمُ النَّاسِ قِيَامًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ، لَا تَأْخُذُ أَحَدَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ الْعَظَائِمُ, بَلْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.
عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1758788470_خطبةٌ نفِيسةٌ، كتَبها شيخُ الإسلام ابن تيمية.pdf