دعاة الحرية
نواف الشيخي
1447/05/22 - 2025/11/13 23:27PM
الحمد لله رب العالمين ، هدانا لأقوم سبيل، ومنّ علينا بصفاء المنهج وسلامة الدليل، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد:
فكثيرةٌ هي خِطاباتُ التنديدِ بالغلوِّ والتطرُّفِ والإرهاب، وهذا أمرٌ حَسَنٌ إذا أتى مُوافِقًا للكتابِ والسُّنَّةِ، ولكن في المقابل تكادُ تَنعدِمُ خُطبُ التنديدِ بالانحلالِ وتَمييعِ القِيَمِ والمبادئ.
وخُطبتُنا اليوم لنكشف شيئًا من عَوَارِ أهلِ الانحلال.
أيُّها المسلمون:
إلى عهدٍ قريبٍ كان الحالُ السائدُ في مجتمعِنا أنَّ العاصي بعد معصيتِه يُحِسُّ بحرارةِ الذنب، فيعترفُ إلى ربِّه تائبًا راجيًا عفوَه، كما قال ربُّهم:
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
ثمَّ هبط على أرضِ المجتمعِ كائنٌ جحيميٌّ اسمُه (التبرير)، ولفظَ نيرانَه في صدورِ الناس، فأحرَق من النفوسِ كَسْرَةَ الذنب، وصار الواحدُ لا يكتفي بالعِصيان حتى يضمَّ إليه (التبرير)، ليُوجِدَ لنفسِه قناعًا فكريًّا يُغطِّي به سَوْأَةَ فعلِه، ويتخذه دِرعًا أمامَ من يُنكِرُ عليه.
ومن أقنِعةِ التبرير ما يُسمَّى بالحرِّيَّة!
وهذه الحرِّيَّةُ ليست كحرِّيَّةِ الإسلامِ التي ضبطتها شريعة الرحمن، بل هي حرِّيَّةٌ مُنفَلِتةٌ مُطلقةٌ لا حدودَ لها في كلِّ المجالات.
هي باختصارٍ: عبادةُ الإنسانِ هواهُ وشهوتَه بعيدًا عن الدِّينِ والتقاليدِ والعادات.
يفعلُ الإنسانُ ما شاء، ويقولُ ما شاء، كيفما شاء، ويقولون: نفعلُ ذلك ما دمنا لا نُؤذي أحدًا بشكلٍ مباشر.
ففي عقيدتِهم: له أن يَسكَرَ بشرطِ ألَّا يقودَ السيارةَ وهو سكرانُ حتى لا يضرَّ الناسَ بحادثٍ، وله أن يزني بشرطِ أن تَرضى المرأةُ بالزِّنا دونَ إكراه، وله أن يتكلَّمَ في الدِّينِ بغيرِ علمٍ، وينتقدَ الثوابتَ الشرعيَّةَ برأيِه بشرطِ أن يكون لطيفًا مع المخالف!
لذا تقولُ عقيدتُهم: "أنت حرٌّ ما لم تضرّ".
ودعونا نفحصْ هذه العبارةَ من رؤيةٍ شرعيَّةٍ لنرى الخللَ فيها.
فلدينا الآن جملتَان:
الأولى: "أنت حرّ"،
والثانية: "ما لم تضرّ".
فأمّا قولُه: "أنت حرّ"، فيُقالُ له: حدِّدْ مقصدَك!
أأنت حر في العبادات؟ أم في المباحات؟
فالصوابُ أن يُقال: أنت حرٌّ في المباحات، لكنَّك عبدٌ للهِ في الواجباتِ والمحرَّمات.
أمَّا إطلاقُ الحرِّيَّةِ هكذا في كلِّ شيءٍ فهو إعدامٌ لعبوديَّةِ الله، وتعطيلٌ للأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر، وهذه الحرِّيَّةُ العمياءُ لا تصلحُ إلَّا للبهائمِ، فإنَّها حرَّةٌ تأكلُ وتشربُ وتنكحُ بلا عقلٍ ولا شرعٍ.
وأمّا الجملةُ الثانية: "ما لم تضرّ"، فمقصودُهم بها: ما لم تضرَّ الآخرين وتظلمهم.
والجوابُ الشرعيُّ عن هذه الجملةِ من وجهَين:
الوجهُ الأول:
نقولُ له: ومن قال إنَّك حرٌّ لا يُنكَرُ عليك إذا لم تضرَّ أحدًا؟!
فهذا إمامُ المحتسبين رسولُ الله ﷺ رأى خاتمًا من ذهبٍ في يدِ رجلٍ، فنزعَه فطرحه، مع أنَّ لبسَه للذهبِ لم يضرَّ به أحدًا بشكلٍ مباشر.
فهذا دليلٌ نبويٌّ على أنَّ الاحتسابَ والإنكارَ يكونُ على المرءِ ولو لم يضرَّ أحدًا بمعصيتِه.
الوجهُ الثاني:
أنَّا نقولُ له: حتى معصيتُك في خاصَّةِ نفسِك فإنَّ ضررَها يتعدَّى إلينا، لأنَّنا جميعًا في سفينةٍ واحدة، فإذا خَرَقَ السفينةَ أحدُنا بفسوقِه، ولم ننهَه، ولم نسعَ في إصلاحِه، غَرِقْنا جميعًا.
وذلك قولُ الله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾،
فمفهومُ الآية: أن القوم لو لم يكونوا مصلحين، ويأخذوا على أيدي سُفَهائِهم لهلكوا جميعًا، كما لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل، والسبب كما قال الله تعالى:﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾.
ثمَّ تصوَّر يا رعاك الله أنك في حقلِ ألغام، وعلى بُعدِ خطوةٍ من لَغْمٍ منها، فصاحَ بك أخوك أنِ انتبه! أفلا يكونُ مُحسنًا إليك؟
فاعلم أنَّ أمرَه لك بالمعروفِ ونهيَه لك عن المنكرِ إنما يأخذُ بيدِك إلى الجنة، ويباعدُك عن النار.
فإذا عُلمَ هذا؛ اتَّضح أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ هو صِمَامُ أمانِ المجتمع، وهو مركزُ ضبطِ الحريّات، وأنَّ المنافقين أتباعَ الغربِ هم بوابةُ غرقِ المجتمع ومركزُ انفلاتِ الحريات.
والمتأمِّلُ لأسبابِ انتشارِ هذا الفكرِ المنحلِّ يجدُ أمورًا، منها:
اختلافُ المنطلَقاتِ التي تُبنى عليها الآراء:
فلا شكَّ أنَّ منطلَقَ المسلمِ كتابُ الله وسُنَّةُ رسولِه ﷺ، أمّا منطلَقاتُ أهل الانحلال فهي المفاهيمُ الغربيّة.
قال تعالى عن المعاندين الأوائل:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾،
والمنافقون اليوم يقولون: بل نتَّبع ما وجدنا عليه الغرب.
ومنها: الهزيمةُ النفسيّة التي أورثت انبهارًا بالحضارةِ الماديّةِ الغربيّة، حتى خُيِّلَ إليهم أنَّ المسلمين متخلِّفون ما لم يسلكوا نهجَ تلك الحضارة!
ولو تأمّلنا السببَ وراء هذا الانبهار لوجدناه في التعلّقِ بالدنيا وزُخرُفِها، فيكونُ الميزانُ في قلبِ المنحلِّ أنَّ من شيَّد العمرانَ وزخرف البُنيان وطوّر الصناعةَ وبنى الحضارةَ، فهو القدوةُ في الأخلاقِ والعقائد!
وهذا غلطٌ بيّنٌ، فالمؤمنُ العاقلُ الحصيفُ يعرفُ ما يأخذُ من الكفارِ وما يَدَع، فيستفيدُ من علومِهم وصناعاتِهم، ثم ينبِذُ فِسقَهم وفجورَهم ومجونَهم.
ومنها: تقديسُ العقلِ وتقديمُه على النصوص، فيقبلون النصوصَ أو يرفضونها بحسبِ موافقتِها لعقولِهم.
والخطورةُ في الأمرِ أنهم لو ثبتوا على قاعدتِهم في تقديمِ العقلِ على النصِّ وطبّقوها في كلِّ نصوصِ الوحي لوصلوا إلى الكفر؛ لأنَّ بعضَ الأحاديثِ في المعجزاتِ مثل الإسراءِ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ المقدسِ ثم صعودِه إلى السماءِ السابعةِ ورجوعِه إلى مكة، كلّ ذلك في ليلةٍ واحدة، فهذا أمرٌ لا يُدرك بالعقل، وليس علينا إلا الإيمانُ به ما دام من خبرِ الله ورسولِه.
فأيهما أعسرُ على العقل؟ خبر الإسراء والمعراج، أم تحريمُ السُّفورِ والمعازفِ وغيرها من المحرَّمات؟!
فكيف يؤمنون بالمعجزات، ثم يكذِّبون ما دونها من الفقهيّات؟ ولكنهم متناقضون!
نعم، للعقلِ منزلتُه في دينِ الله تعالى، ولكنَّه محكومٌ بالوحي، لا حاكمٌ عليه، لأنَّ العقلَ البشريَّ قاصر، والوحيَ كامل، وكلُّ آيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ فإنه موافقٌ للعقلِ أتمَّ الموافقة.
فإذا كان الحديثُ صحيحًا ثم عارضَه العقلُ، فإنما هو من فسادِ عقلِ هذا الإنسان، وضعفِ تصورِه للنصِّ وضآلة فهمه، فالواجبُ عليه حينها أن يسألَ أهلَ العلم عن معنى ما أُشكِل عليه، لا أن يرفضَ الوحيَ الكاملَ بعقلِه الناقص.
أقولُ ما سمعتم، وأستغفرُ الله لي ولكم.
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله، وعلى آله وصحبِه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنَّ الحرِّيَّة التي مدحتها الشريعة، هي التحرُّرُ من عبوديَّةِ كلِّ أحدٍ إلى عبوديَّةِ الواحدِ الأحد.
أمّا المنافقُ فحرِّيَّتُه منكوسة، فقد تحرَّرَ من عبوديَّةِ الله، فصار عبدًا لهواه.
فيا مؤمنون، أبناؤُنا وبناتُنا أمانةٌ في أعناقِنا، علِّموهم عقيدةَ الخضوعِ لله والاستسلامَ لحكمِه، وبصِّروهم؛ فنحن في مرحلةٍ اهتزَّت فيها الثوابتُ، وأصبحت المسلَّماتُ الشرعيّةُ ـ ولا أقولُ المسائلَ الخلافيةَ ـ بل المسلمات أصبحت محلَّ نقاشٍ وحوار.
فعليكم بالكتابِ والسُّنَّةِ بفهمِ علمائِنا الراسخين.
وإنَّ المتأمِّلَ لأهدافِ المنافقين اليوم يجدُها تدورُ حول مَسخِ هُويّةِ المجتمعِ وتلميعِ الفكرِ الغربيّ، ومع أنه لا يجدُ بحمدِ الله قبولًا شعبيًّا واسعًا، إلّا أنَّ خطورتَه تكمنُ في تصدّر رموزِه في بعض وسائلِ الإعلام ووسائلِ التواصل، ومحاولةِ تطبيعِ الفكرِ الغربيّ على مجتمعِنا تطبيعًا.
هذا وإنَّ آثارَ الفكرِ المنحلِّ تظهرُ في أمورٍ عدّة، منها:
الضعفُ الحادُّ في التسليمِ للنصوصِ الشرعيّة، والحرجُ الذي يكونُ في الصدرِ عند سماعِ نصٍّ يُخالِفُ الأهواء، وهذا شرخٌ في الإيمان.
قال تعالى:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
فوالله، لو تشرّبت قلوبُنا إيمانًا بأنَّ اللهَ أحكمُ الحاكمين، لكنّا مثلَ أصحابِ رسولِ الله ﷺ، لما نزل تحريمُ الخمر، والكأسُ في يدِ أحدِهم، لم يرفعْها إلى فيه، بل سكبوا على الفور قوارير الخمرِ استجابةً لله، لعلمِهم أنَّ الحكيمَ ما كتبَ شيئًا إلا والمصلحةُ فيه.
ومن آثارِ الفكرِ المنحلّ: المجاهرةُ بالمنكرات.
قال عليه الصلاةُ والسلام: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ».
وهذه المجاهرةُ يُرادُ بها تبلّدُ الحسِّ الإنكاريِّ في قلبِ المسلم، الذي هو أدنى درجاتِ الإنكار، كما قال النبيُّ ﷺ: «مَن رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيدِه، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمان».
فالقلبُ هو آخرُ معاقلِ الإيمان، وهنا يكمنُ خطرُ المجاهرةِ، أن يتبلّدَ إحساسُ القلبِ بكثرةِ مساسِ المنكرِ ورؤيتِه، فذكروا أنفسَكم وأولادَكم أنَّ الحرامَ حرامٌ ولو فعله كلُّ أحد، حتى لا تأتي أجيالُنا من بعدِنا فيقولون:
﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾.
ومن مساوئ هذا الفكر: الجرأة على القول على الله بغير علم، قال تعالى:( ﴿وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ * متاعٌ قليلٌ ولهم عذابٌ أليم﴾
ومن أخطرِ آثارِ الفكرِ المنحلِّ: أن يصلَ صاحبُه إلى الكفرِ وهو لا يشعر، ذلك أنَّ كلَّ آيةٍ فيها الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ فإنها تُصادِمُ مبدأَ الحرِّيَّةِ عندهم تماما، فإما يؤمنون بهذا أو بهذا.
فعلى المسلمِ أن يتَّقي اللهَ ويحذرَ هذا الفكر المنحل، ويُحذّر منه ومن أهله، ويتذكَّرَ الغايةَ التي وُجِد لأجلِها: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾،
أي: ليعبدوا اللهَ لا أهواءَهم.
فإنَّ عقوبةَ صاحبِ الهوى كما قال الله تعالى:
**﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
اللهم صل على محمد...
المرفقات
1763065604_دُعَاةُ الحريّة.pdf