ذلك يوم التغابن في 8/5/1447
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله الغفور الشكور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له يحيى الموتى ويبعث من في القبور وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الشكور الصبور صلى الله عليه وعلى آله واصحابه دعاة الهدى والنور وسلم تسليماً، أما بعد:
فياعباد الله اتقوا الله ربكم واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا
يعيش المؤمن في دنياه غي هم وعناء يصارع الابتلاءات والأدواء ويعاني من ظلم وكيد الأعداء ويتذوق الفقر واللأواء ، ويموت ولم يذق من الحياة زينتها ولم يتذوق من الشهوات طيبها
يعيش المجرمون في رغد من العيش يستعبدون الناس يقتلون فريقا ويأسرون فريقا ، قد حيزت لهم الدنيا بحذافيرها ، يحاربون دين الله ويؤذون أولياء الله ثم يفارقون الحياة ولم يجدوا على طغيانهم عقابا ولم يروا حسابا ولا عذابا ، فهل ربنا يخذل أولياءه ويهمل أعداءه ؟
حاشاه ربي وهو الحكم العدل الذي قضى وحكم وسنته لاتتبدل ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا .. ) وقضى وقضاؤه لايتحول ( ولاتحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون )
أجل فالله هو الحكم العدل وربك لايخلف الميعاد لكنه لم يجعل الدنيا دارا للمكافأة والجزاء ، ولا محلا للثواب والعقاب ، وإنما أخر ذلك ليوم موعود ذلك يوم التغابن يوم يقوم الناس لرب العالمين وما يرسله من عقوبات عاجلة فإنما هي جنة في مقابل عذاب يوم عظيم
إن الذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي ، لاأمل له ولا رجاء ، ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة ، وفي الحياة مواقف وابتلاءات لايقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء ،وابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر الذي لاتضيع فيه صغيرة ولا كبيرة
إن الحساب الختامي والجزاء الأكبر ليس في هذه الأرض ، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب فلا ندم على الخير والجهاد في سبيل الله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه ، ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس ، فسوف يوفاه بميزان الله ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ... )
إنه ليس شيء يدفع إلى العمل والبذل والعطاء والإخلاص ولا شيء يردع عن العصيان والتقصير والطغيان مثل تذكر ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبا
أولم يكف ذلك اليوم شدة وهولا أن الشمس فيه تكور والنجوم تنكدر والبحار تسعر والجبال تسير والعشار تعطل والوحوش تحشر وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد
إو ليس كافيا في شدته أنه يوم تنشغل فيه كل نفس بأمرها ولا تتلفت إلى سواها ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها .. ) فالتبعة فردية والحساب شخصي وكل نفس مسؤولة عن نفسها ولا تغني نفس عن نفس شيئا .. التبعة فردية فلا تنال نفس إلا ماكسبت ، ولا تحمل إلا مااكتسبت
هول ذلك اليوم يقطع أواصر الرحم والنسب ويشغل الوالد عن الولد ويحول بين المولود والوالد وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة مجردة من كل عون ومن كل سند ، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة ( ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لايجزي ... )
إنها تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها ، وللنفوس أن تختار طريقها ومصيرها ، وهي مأخوذة بما تكسبه باختيارها مرهونة بأعمالها وأوزارها ( لمن شاء منكم أن يتقدم .. )
أولم يكف من أهوال ذلك اليوم أنه يوم الفصل لايوم الاعتذار ، ( هذا يوم لاينطقون ولايؤذن لهم فيعتذرون )
في ذلك اليوم لاترى إلا الصمت الرهيب والكبت الرعيب والخشوع المهيب الذي لايتخلله كلام ولا يقطعه اعتذار فاليوم يوم العقاب لايوم العتاب
في ذلك اليوم الرهيب لاترى إلا البكاء والعويل والأمنيات والتوسلات ، ماأكثر من يقول ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ) وما أكثر من يقول ( لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ) وما أكثر من يقول ( لولا أخرتني إلى أجل قريب فاصدق .. )
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة والإقرار بالحق الذي طالما نسوه أو جحدوه ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا .. )
ماأعظمه من يوم يتجلى فيه الجبار جل جلاله ويتولى الحكم والفصل والملائكة تقف صفا صفا ثم يجاء بجهنم فتقف هي الأخرى متأهبة ، يومئذ يتذكر الإنسان الحق ويتعظ بما يرى ولكن بعد فوات الأوان وأنى له الذكرى ، وحين تتجلى الحقيقة يقول ( ياليتني قدمت لحياتي هنا ، فهي الحياة الحقيقية
إنها الآمال والأماني الضائعة ( فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل )
ولكن ياحسرة على العباد تتاح لهم فرص النجاة فيعرضون عنها ويفتح الله لهم ابواب رحمته ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة وهو يناديهم ( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لامرد له من الله
ماأعظم ذلك اليوم يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ، ( فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا
ماأعظم ذلك اليوم حين تقع الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة ) تخفض أقدارا كانت رفيعة في الأرض وترفع أقدارا كانت خفيضة في دار الفناء حيث تختل الاعتبارات والقيم ثم تستقيم في ميزان الله
ماأعظم ذلك اليوم ( يومئذ يتبعون الداعي لاعوج له .. )
إنه يوم زحام وخصام ، يوم ذل ومهانة يوم عصيب يوم عسير على الكافرين غير يسير ، حيث تنشر صحف الأعمال ( وإذا الصحف نشرت ) فلم تعد خافية ولا غامضة ، وهذه العلنية اشد على النفوس وأنكى ، فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها من ذاته من ذكراها ويرجف ويذوب من كشفها ثم إذا هي في ذلك اليوم منشورة مشهودة .. إنه يوم عسير يوم يقوم الناس لرب العالمين
حسبك هولا وشدة أن في ذلك اليوم تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فاستدفعوا ياعباد الله حر ذلك اليوم بعمل يظلكم بظل عرش الله يوم لاظل إلا ظله
اللهم ارزقنا الاستعداد لهول ذلك اليوم العظيم ، وأقول ها القول ....
الخطبة الثانية ... أما بعد :
فقل لكل مظلوم ومحروم ومستضعف من المسلمين : إذا أوذيتم وعوديتم فتذكروا أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون وإنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وويل ثم ويل ثم ويل لمن قضى فبغى أو حكم فظلم ويل لهم من يوم الآزفة إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين ماللظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق
يامعشر الدعاة والمربين: إذا رأيتم المذنبين والمفرطين في جنب الله فلاتخوفوهم بالأمراض والأعراض والخسف والمسخ وإنما أنذروهم يوم الحسرة وقولوا لهم : ألا تظنون أنكم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين
حينما نضعف أمام الشهوات ونتراخى عن العبادات فليس من رادع ينفع وليس من وازع يدفع أعظم من تذكر يوم الدين يوم يقوم الناس لرب العالمين فحلقوا في سماء الآخرة وتذكروا يوما يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه ، يوما لاترى فيه إلا وجوها مسفرة ضاحكة مستبشرة أو وجوها عليها غبرة ترهقها قترة فانظر لنفسك ماذا أنت تختار ، وإن سولت لك نفسك أمرا فقل ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم
ولو أننا جعلنا الآخرة أكبر همنا ومنتهى آمالنا وقصارى تفكيرنا لما وجدنا القلوب القاسية والنفوس المعرضة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
إن تذكر الآخرة والإيمان بها يستلزم الاستعداد لها بالعمل ومراقبة النفس والعظة بتجارب البشر وإدامة الاتصال بالله وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
إن تذكر الآخرة والاستعداد لها يعني التوبة والرجوع إلى الله والتسابق إلى الخيرات
إن الأبرار يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، ودافعهم : إنهم يخافون يوما كان شره مستطيرا ويقولون : إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا
وإن رجال المساجد لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والسبب لأنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار
وإن القانتين آناء الليل سجدا وقياما إنما يحدوهم الحذر من الآخرة ورجاء رحمة الله ( أمن هو قانت آناء .. )
يا معشر المسلمين: ما لنا نرى الناس يتصارعون في سبيل الدنيا، ومن أجلها يوالون ويعادون، ومن أجل حطامها يكدحون ويتعبون، ما للناس اليوم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون
هل رواد المساجد كرواد الأسواق، وهل المترددون على الحلقات كالساهرين في الاستراحات.
وهل من يصطفون عند البنوك كعدد الذين يصلون الفجر.
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ
إن المسلم الحق من يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، ويستعمرها بأمر الله، ويسيرها كما يحب الله ويكون في الدنيا بجسده، يعمل هنا وقلبه وغايته هناك، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
اللهم صل وسلم ...
المرفقات
1761823516_ذلك يوم التغابن.doc