زكاة النخيل
سليمان بن خالد الحربي
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد:
فَاتَّقَوْا اللهَ أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ حَقَّ تُقَاتِه، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ،
مَعْشَرُ الْإِخْوَةِ! إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةُ عَلَيْنَا هَذِهِ الثِّمَارِ مِنَ النَّخِيلِ عَلَى اخْتِلافِ أَنْوَاعِهَا وَطُعُومِهَا وَأَلْوَانِهَا، فَاِحْمَدُوهُ وَاشْكُرُوهُ، وَتَحَدَّثُوا بِنِعَمِ اللهِ وَآلَائِهِ، فَإِنَّ الاعْتِرَافَ بِنَعَمِهِ، وَالتَّحَدُّثِ بِهَا، مِنْ أَعْظَمِ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ، ثُمَّ تَفَكَّرُوا فِي هَذَا الثَّمَرِ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ أنْ تَنْظُرُوا بِأَبْصَارِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ، وَتَتَفَكَّرُوا فِيمَا تَفَضَّلَ اللهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، قَالَ اللهُ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:6 - 11].
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ شُكْرِهَا أَنْ تُؤْتُوا حَقَّهَا وَقْتَ الجَذَاذَ؛ كَمَا تُؤْتُونَ حَقَّ الزُّرُوعِ يَوْمَ الحَصَادِ، فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ زكَاتَـهَا فَمَا شَكَرَهَا بَلْ كَفَرَهَا، وَلَـمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكاةِ فِيهَا، وَأَنَّ مِنْ تَرَكَ إِخْرَاجَ زكاتِهَا فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ بِالوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الجَنَّةِ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17]. قِيلَ: أَيْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا حَقَّ الـمَسَاكِين وَالفُقَرَاءِ، كَمَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ، فَقَالَ فِي آخَرِ القِصَّةِ: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33]، أَيْ: أَنَّ فَاعِلَ هَذَا مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةٍ فِي الآخِرَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ}، أَيْ: الدُّنْيَوِي لِـمَنْ أَتَى بِأَسْبَابِ الَعذَابِ أَنْ يَسْلُبَ اللهُ العَبْدَ الشَّيْءَ الذِي طَغَى بِهِ وَبَغَى، وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَأَنْ يُزِيلَهُ عَنْهُ وَهُوَ أَحْوَجُ مَا يَكُون إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} مِنْ عَذَابِ الدُّنْيا، فَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْجَبَ لَهُ الانْزِجَارَ عَنْ كُلِّ سَبَبٍ يُوجِبُ العَذَابَ وَالعِقَابَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زكاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي: بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ! ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَة: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180].
وَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].
وَنَحْنُ فِي مَوْسِمِ نُضْجِ التَّمْرِ وَاسْتِوَائِهِ، يَسْأَلُ كَثِيرٌ مِنَ الإِخْوَةِ عَنْ صِفَةِ زكَاةِ النَّخِيلِ، لاسِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَبِيعُهَا عِنْدَ نُضْجِهَا وَلَا يَنْتَظِرُ إِلَى وَقْتِ الجَذَاذِ.
وَالجَوَابُ: أَنَّ النَّخِيلَ -سَوَاءٌ كَانَ النَّخْلُ فِي الـمَنْزِلِ أَوْ فِي الاسْتَرَاحَةِ أَوْ الـمَزْرَعَةِ- يَجِبُ فِيهَا الزكَاةُ، مَنْ مَلَكَ اثَنَيْ عَشَرَ وَسِتَمَائَة كِيلًا فَعَلَيْهِ فِي نَخِيلِهِ الزكَاةُ نِصْفُ العُشْرِ لِـمَا يَقُومُ بِسَقْيِهِ بِـمَؤُونَةٍ؛ كَمَا هُوَ الـمَوْجُودُ فِي عَصْرِنَا، وَهُوَ خَمْسَةٌ بِالـمَائَةِ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ الوَاجِبَ فِي الزكَاةِ إِمَّا أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يِجِبُ فِيهِ بِقِسْطِهِ، وَهَذَا هُوَ الأَفْضَلُ، وَإِمَّا أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الوَسَطِ وَيُتَحَرَّى العَدْلٌ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَ بُسْتَانَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَرَأَى أَنْ يُخْرِجَ الوَاجِبَ مِنَ القِيمَةِ نِصْفَ العُشْرِ -أَيْ خَمْسَة بِالمائة- أَوْ يُقَسِّمَ الـمَبْلَغَ كُلَّهُ عَلَى عِشْرِينَ وَالنَّاتِجْ هُوَ قِيمَةُ الزكَاةِ مَادَامَ يُسْقَى بِـمَؤُونَةٍ، فَإِنَّ هَذَا لا بَأْسَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ يَخْرِفُهُ فِي حِينِهِ -كَمَا فِي نَخِيلِ البيوتِ- فَلا بَأْسَ أَنْ يُقَدِّرَ قِيمَةَ التَّمْرِ وَيُخْرِجَ الوَاجِبَ؛ لأنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَى الـمَالِكِ وَأَنْفَعُ لِلمُحْتَاجِ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِذَا بَاعَ ثَمَرَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ بَلَغَ -يَعْنِي النِّصَابَ- فَفِي ثَـمَنِهِ العُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ.
إِذًا عَلَى الـمُزكِّي أَنْ يَعْتَنِي بِأُمُورٍ:
الأَوَّلُ: أَنْ يَنْوي إِخْرَاجَ الزكَاةِ الوَاجِبَةِ، وَلَا يَنْوي صَدَقَةَ التَّطَوًّعِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَأَكَّدَ أَنَّ الثَّمَرَ قَدْ بَلَغَ النِّصَابَ وَهُوَ اثْنَا عَشْرَ وَسِتُمَائة كِيلًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَ زكَاةَ التَّمْرِ مِنْ وَسَطِ التَّمر، فَلا يُخْرِجُ مِنَ الرَّدِيءِ فَقَطْ.
الرَّابِعُ: إِنْ كَانَ قَدْ بَاعَ نَخِيلَهُ، أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَأْكُلَهُ رُطُبًا، فَهُوَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَخْرِصَ النَّخْلَ ثُمَّ يُحَدِّدَ مِنْهَا نَخْلَ الزكَاةِ التي تَبْلُغُ الوَاجِبَ الذي عَلَيْه، فَلا يَقْرَبُهَا؛ لِتَكُونَ هِيَ زكَاتَه، أَوْ إِنْ شَاءَ أَنْ يُخْرِجَ القِيمَةَ بِأَنْ كَانَ قَدْ بَاعَ النَّخْلَ كُلَّهُ، أَوْ هُوَ أَرْفَقَ بِهِ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ الزكَاةَ مِنَ القِيمَةِ إِنْ كَانَ يَبِيعُهَا أَوْ يُقَدِّر قِيمَتَهَا ثمَّ يُخْرِجُ الوَاجِبَ فِي أَصَحِّ قَوْلَي أَهْلِ العِلْمِ.
وَلْيَتَّقِ اللهَ البَاعَةُ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ أَنْ لَا يَبِيعُوا الثِّمَارَ وَقَدْ رُشَّتْ بِالـمُبِيدَاتِ حَتَّى تَنْتَهِي الـمُدَّةُ الـمَحْظُورَةُ مِنْ أَكْلِهِ، حَتَّى لَا يَقَعُ الضَّرَرُ وَالـمَرَضُ، فَإِنَّ النَّاسَ يَشْتَرُونَهُ لِيَأْكُلُوهُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ أَخْبَرْتَـهُمْ لَـمَا اشْتَرُوهُ، وَقَدْ وُجِدَ مَنْ يَبِيعهُ قَبْلَ انْتِهَاءِ الـمُدَّةِ مِنَ بَعضِ الـوافِدِين، فَلابُدَّ حِينَ تَأْجِيرِ مَزْرَعَتِكَ لَـهُمْ أَنْ تُنَبِّهَهُمْ وَتَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ وَتُخْلِي مَسْؤولِيتَكَ، فَهَذَا أَطْيَبُ لِقَلْبِكَ وَمَالِكَ، وَالـمُسْلِمُ أَخُو الـمُسْلِمِ لَا يَـخْذِلُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ.
أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].