سبل تعزيز مشاعر الانتماء والولاء للوطن
عبد الله بن علي الطريف
سبل تعزيز مشاعر الانتماء والولاء للوطن 1447/3/27هـ
أيها الإخوة: عندما نسمع كلمة وطن يدور في خلدنا ذلكم الجزء من الأرض الذي ننتمي إليه، وإن لم نولد به أو نترعرع فيه.. ويتعزز هذا الانتماء للوطن عندما يعيش الإنسان فيه.. فالوطن مهدُ الصبا ومدرجُ الخطى ومرتعُ الطفولة، وملجأُ الكهولة، ومنبعُ الذكريات، وموطنُ الآَبَاءِ والأجدادِ، ومأوى الأبناءِ والأحفادِ، ومُستقرُ الحياةِ، ومكانُ العبادةِ، ومحلُ المالِ والعرض، ومكانُ الشرفِ.. على أرضه يحيا الإنسان ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكَرَامَتُه من كرامته، وعزتُه من عزته، به يُعْرَف.. وعنه يُدافع.. والوطن نعمة من الله، وحبُهُ والحنينُ إليه والانعطافُ نحوه طبيعةٌ طَبَعَ اللهُ النفوسَ عليها وفطرَها.. وأُمِرَ بها في الإسلام..
ولقد كان الإخراج من الديار هو التهديد المرعب الذي يستخدمه منكري رسالات الأنبياء عليهم السلام قال الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم:13] وقال سبحانه عن قوم لوطٍ عليه السلام: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف:82] وعن قوم شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف:88].. وكان إخراجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- من وطنه مكة إحدى العقوبات التي اتفق عليها مشركو قريش لتنكيل به قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30] وفي حديث إخبار الرَسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- لوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بمَا رَأَى في بدية مبعثه فقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: "هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا". رواه البخاري. قال في فتح الباري، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ شِدَّةُ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ قَوْلَ وَرَقَةَ أَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ انْزِعَاجٌ لِذَلِكَ فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْإِخْرَاجَ تَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ لِحُبِّ الوَطَنِ وَإِلْفِهِ فَقَالَ «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ.؟» قَالَ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَوِ التَّفَجُّعِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطَنَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَرَمُ اللَّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ الْآبَاءِ مِنْ عَهْدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. اهـ. وتحقَّقَ بهجرتِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- ما أخبرَه به وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قبلَ سِنينَ، وَهَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ مُخَاطِباً مَكَةَ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» رواه النسائي وابن حبان والترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ وصححه الألباني والأرنؤوط.
أيها الإخوة: ويحلو الوطن ويجمل إذا اجتمعَت كلمةُ أهلِه وتوحدَ صفُهم.. ذلك أن وحدةَ الصف من أعظمِ مقاصدِ الشريعة، قال تعالى: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.. الحديث» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهي من أعظم سبل تعزيز مشاعر الانتماء والولاء للوطن.. ومن سبل تعزيز مشاعر الانتماء والولاء للوطن كذلك كونه آمنًا مطمئنًا.. لذلك يجب التأكيد على كل مواطن أن يحافظ على أمن وطنه، وهي مسؤولية عظيمة يجب أن يضطلع بها كل فرد من الأمة، وذلك من خلال طاعته لله عز وجل ولرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-فوجود الشرك في الأمة ونتشار المعاصي من أسبابِ زعزعةِ الأمن، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82] (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا) أي: يخلطوا (إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) المقصود بالظُلْمِ الشرك، والمعاصي.. قال الشيخ السعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: "(لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الأمن من المخاوفِ والعذابِ والشقاءِ، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة.. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أنَّ الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء".. أهـ. أسأل الله تعالى أن يحفظ على هذه البلاد أمنها وأمانها.. وأن يؤمن الخائفين من المسلمين.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومن سبل تعزيز مشاعر الانتماء والولاء للوطن كونه وجود ولي أمر يقود مسيرتها، وحقه على الرعية الطاعة بالمعرف قال الله تعالى آمرًا بذلك: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..) [النساء:59]. قال الشيخ السعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: "وأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".. أهـ.: وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وخَطَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ». رواه أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهو صحيح على شرط مسلم.. قال القاضي عياض-رَحِمَهُ اللهُ-: "وذكر مسلم في الباب أحاديث في السمع والطاعة في منشطك ومكرهك وأَثَرَةٍ عليك. وفيها وجوبها فيما يَشِقُ ويُكره في باب الدنيا لا فيما يخالف أمر الله، كما قَالَ النَّبِيُّ في الحديث الآخر: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ.» رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. وبهذا يجمع بين الأحاديث" المعلم شرح صحيح مسلم..
ومما يزيد الانتماء والولاء للوطن لزوم أهله للجماعة واتحاد الكلمة، والالتزام بالأنظمة والتعليمات التي وضعتها الدولة لحفظ الحقوق وصيانة الأرواح والممتلكات..
أيها الإخوة: ومن سبل تعزيز مشاعر الانتماء والولاء للوطن استحضار ما يتميز به الوطن عن غيره، وأنتم بحمد الله في وطنٍ لا كالأوطان.. وبلادٍ لا كل البلدان.. فقد حَبَا اللهُ وطنَكم مكانةً دينية وحضارية واقتصادية وريادة عالمية لم تتوفر لغيره من البلدان.. أنتم في وطن يعتز قادتُه بخدمة الحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة وتصرف دولتكم على بناء وتطوير الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة مليارات الريالات بلا مَنٍّ ولا أذى.. تفعل ذلك طاعةً لله ورجاءً لما عنده.. وطلبًا لرحة قاصديها من الحجاج والمعتمرين والزائرين من جميع أقطار الدنيا.. إِنَّ استشعارَ المكانةَ السامية من كل فرد في هذا الوطن أقوى معززٍ للانتماء والولاء للوطن.. وعلى كل مواطن صادق أن يعتز بوطنيته أن يستشعر مسؤوليةَ المحافظة على هذه النعمة والمشاركة في بناء الوطن والمحافظة على مقدراته.. حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين..