سُوْرَةُ نُوْحٍ 16 / 5 /1447هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبةُ الأُولى: سُوْرَةُ نُوْحٍ 16/ 5/ 1447ه
الحمدُ للهِ الكبيرِ المتعالِ، لهُ الشكرُ بالغُدُوِّ والآصالِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، شديدُ المحالِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلّى اللهُ وسلّم وبارك عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجِه، وسلّم تسليماً مزيداً. أمَّا بعد
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }.
القرآن الكريم بآياته وحججه وبلاغته يختصر الملاحمَ في آية، ويُقيمُ البرهانَ في جملة، ويزرع في النفسِ يقينًا لا تهزّه العواصف.
القصص القرآنيّ مدرسةُ التزكية والتفكّر ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
القصة في القرآن مدرسة الحكمة العملية؛ تُعلّمك أن الحق لا ينتصر دائمًا بسرعة، وأن الابتلاء ليس نهاية الطريق، وأن الله يُمهل ليُمحّص، لا ليغفل. ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
سورة نوح قصيرة في عدد آياتها، واسعة في دلالتها، محدودة في ألفاظها، عميقة في معانيها وسننها ..
سورة نوح تفتح أبوابًا واسعة من التأمل في طريق الدعوة، وصراع الإيمان مع الجحود، وصبر الداعية حين يطول الطريق وتتعاقب الأعوام دون أن يلين القلب ولا تفتر الهمة.
هي سورة تُقرأ في دقائق، لكنها تُعاش في عمرٍ كامل باحداثهوتقلباته وعاقبة أمره ..
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
ليس نداء لقوم نوح فحسب، بل نداء لكل أمةٍ غفلت عن سنن الله في الحياة..
فكلما تراكمت الغفلة، بعث الله نذيرًا يقول أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ؛ وكلُّ داعيةٍ صادق فهو نوحٌ في زمنه، وكلُّ مجتمعٍ يُعرض عن صوت الحق هو قوم نوح وإن قصرت أعمارهم واختلفت حياتهم .
وعد الله لمن استجاب دعوة التوحيد واذعن للإيمان وتواضع للحق بأنه ﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ فالذنوب تغفر بالتوحيد الخالص وتتحات خطايه بالصبر والبلاء، فلا يُترك المؤمن حتى يُمحَّص قلبه تمامًا.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ دلالة عميقة بأن الداعية الصابر لايمل ولايتراجع ، لا يوقفه صد ولا يثنيه جفاء ، عطاء متصل لا يتقيد بزمنٍ ولا حال ..
لقد ضرب نبي الله نوح n أعلى مقامات الصبر في طول الدعوة فدعاهم لَيْلًا وَنَهَارًا ألف سنة إلا خمسين عاما ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ وقال قوم محمد ﷺ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾
وكان كفار قريش يتواصون إذا قرأ النبي ﷺ القرآن أن يصفقواويصيحوا حتى لا يُسمع صوته.﴿وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾
وليتعزَّ أهلُ الحق بسير الرسل، وقص القرآن ما يلقونه من سخريةٍ، وتشويه للحق، وأن التشويش على الدين سنةٌ قديمة﴿وكذلك جعلنا لكل نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا﴾
نداء الأنبياء نداء رحمة وترغيب وشفقة ، فنوح n لا يلوح بالعقاب مع شدة ما لاقاه من العناد والإيذاء ، بل يفتح باب الرجاء وما تحبه النفوس {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}.
حين يعصي الإنسان ربه تمسك السماء وتغبر الأرض وتضيق الحياة .. وحين يستغفر تمطر السماء وتخضر الأرض ويعم الرخاء ، ونادى هود قومه فقال {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ }
الاستغفار يفتح أبواب الرزق والنعمة التي يحجبها الذنب .. تأخر المطر على عهد عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ h فخرج يَسْتَسْقِي، فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ، فَقَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَقَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ هُودٍ حَتَّى بَلَغَ: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}
الاستغفار هو الوصل بين الأرض والسماء .. فإذا إذا ضاق بك الهمّ، فاستغفرالله؛ فالمطر يبدأ من القلب .. إذا قَسا قلبك، فاستغفرالله ؛ فالغفران يمسح غبار الروح..
وإذا احسست بقلة البركة فارجع إلى الله واستغفر الله و"مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ"
{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.
الخطبة الثانية. الحمدلله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله وسلم على خير خلقه اجمعين. اما بعد.
﴿قَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾..فكما أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهرها من الشر والشرك ، فكذا لا تصلح الأرض إلا تطهيرها من الكافرين الظالمين ..
وفي ختامها ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ فمع القيام بالدعوة عمرا طويلا وجهدا مضنيا وصبرا عظيما إلا انه دعا ربه بأن يغفر له , وفي صحيح مسلم "لا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ»
ودعاؤه لوالديه قيل أنهما كانا مسلمين وقيل قصد آدم وحواء . . ودعاؤه للمؤمنين هو بر بهم، وشعوره بآصرة الولاء للمؤمنين والاحساس والجسد الواحد ..
سورة نوح هي سيرة الدعوة في كل زمان :فيها رحمة الرسالة في بدايتها، وصبر الأنبياء في وسطها، وعدالة الله في ختامها.
هي سورة تُعلّم الداعية كيف يصبر، والعاقل كيف يعتبر، والمجتمع كيف يفهم سنّة الله في الأمم : أن الإعراض يُورِث الغرق، وأن الإيمان هو والنجاة والفوز الذي ينجو به الإنسان من طوفان الغواية.
فمن لم يعمر حياته بالإيمان، غرقَ في بحر هواه، وإن لم ينزل عليه الطوفان.
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِوصحبِه أجمعين.
المرفقات
1762463120_سُوْرَةُ نُوْحٍ.docx
1762463120_سُوْرَةُ نُوْحٍ.pdf