شرُّ غائب يُنتظر
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
أيها المسلمون: جعل الله هذه الأمةَ آخرَ الأمم، وفيها تظهر أشراطُ الساعة، وعليها تقوم القيامة، وأخبر سبحانه عن قُرب ذلك، فقال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)
ومن رحمته جل وعلا بعباده: أن جعل للساعة أماراتٍ قبل قيامها؛ ليعود الناسُ إلى ربِّهم، وأخبرَ تعالى عن أماراتِ اقترابها، فقال : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)
وعلاماتُ الساعة الكُبرى إن خرجَت فالأُخرى على إثرِها قريبٌ منها، بيد أن هناك أمرٌ كبيرٌ جعلَه الله من علامات الساعة، ما من نبيٍّ إلا حذَّر أمَّتَه منه، قال ﷺ: (ما بعثَ الله من نبيٍّ إلا أنذرَ أمَّتَه، أنذَرَه نوحٌ والنبيُّون من بعدِه) وأنذَر منه النبيُّ ﷺ أمَّتَه، فقال: "إني لأُنذِركمُوه".. إنها فتنة المسيح الدجال.
فقد كان ﷺ يتعوَّذ في صلاتِه من فتنته، ويُعلِّم أصحابَه التعوُّذَ منه كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن، ويعِظُ صحابتَه ويُخبِرُهم عن قُرب ظهور ذلك الأمر. قال النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه-: "حتى ظننَّاه في طائفة النخل -أي: عند النخل الذي بجانبهم-". رواه مسلم. وكان السلفُ يأمرون بالتذكير به حينًا بعد حين. والدجَّالُ حيٌّ الآن في جزيرةٍ من جُزر البحر، مُقيَّدٌ بوَثَاقٍ شديد، يداه مجموعةٌ إلى عُنقِه ما بين رُكبتَيْه إلى كعبَيْه بالحديد، وخروجُه قد دنا، قال عن نفسه: "وإني أُوشِك أن يُؤذَن لي في الخروج". رواه مسلم.
وعلامات خروجِه: ألا يُثمِر نخلُ بَيْسان -وهي مدينةٌ بين حَوران وفلسطين- بعد أن كان يُثمِر.
وأولُ مخرَجه من حيٍّ يُقال له: "اليهودية" في مدينة أصبهان من أرض خُراسان، يخرُج ومعه سبعُون ألفًا من يهودِها، وله حرسٌ وأعوانٌ. وهو شابٌّ أحمرُ جسيمٌ كبيرُ الخِلقة، واسعُ الجبهة، فيه انحِناء، له شعرٌ كثيرٌ مُجعَّد، عينُه كأنَّها عنبةٌ طافية -أي: ظاهرةٌ عورا - ممسوح العين مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مسلم.
وهو أكبرُ خلقٍ في هذه الدنيا، قال عنه تميمٌ الداريُّ -رضي الله عنه وقد رآه-: "أعظمُ إنسانٍ رأيناه قطُّ خلقًا".
قال ﷺ " : ما بين خلقِ آدم إلى قيام الساعة خلقٌ أكبرُ من الدجَّال" رواه مسلم. وقيل المراد بهذا الحديث عظيم فتنته.
وبيَّن النبي ﷺ صفاتِه ليعرِفه الناسُ إذا خرج، وأنه الدجَّالُ لا ربُّ العالمين كما يزعُم .ولأن الدجَّال سيخرُج في هذه الأمة أخبرَنا النبي ﷺ بصفةٍ فيه لم يذكُرها أحدٌ من الأنبياء، قال ﷺ": "سأقولُ لكم فيه قولاً لم يقُلْه نبيٌّ لقومِه، تعلَمون أنه أعوَر، وأن الله ليس بأعوَر".
وخروجُه في حالِ خفقةٍ من الدين وإدبارٍ من العلم؛ ليتميَّز المؤمنُ من الكافر، وتطغى العُجمة على الناس قبل خروجه، ويقل العرب جدًا، ويتبيَّن المُسلمُ من المُرتاب، فيدَّعِي أنه ربُّ العالمين، ويُفتنُ به العبادُ بما يخلُقُه الله معه من الخوارِق.
وإذا خرجَ فرَّ الناسُ في الجِبال فزعًا منه، وحينَها يُغلَقُ بابُ التوبة، قال -ﷺ -: "ثلاثٌ إذا خرجنَ لا ينفعُ نفسًا إيمانُها لم تكُن آمنَت من قبلُ أو كسبَت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربِها، والدجَّال، ودابَّةُ الأرض". رواه مسلم.
ومن فتنته: أن يقتُل الرجلَ ثم يُحيِيه بإذن الله، ويضرِبُ آخرَ بالسيف فيقطعه قطعتين، ثم يدعُوه بعد قتلِه، فيُقبِلُ ذلك المقتولُ يتهلَّلُ وجهُه. وينشُر الرجلَ بالمِنشار من مِفرَق رأسِه حتى يقطعَ ما بين رِجلَيْه، ثم يمشِي الدجَّال بين القطعتين، ثم يقول له: قُم، فيستوي قائمًا. ومصيبة الدجال أن لها ظاهرًا وباطنًا مختلفًا في الحقيقة عما هو عليه فيأخذ الرجلَ برِجلَيه ويديه فيقذِفُ به إلى النار التي معه، فيُحسَبُ أنما قذَفَه إلى النار، وإنما أُلقِيَ في الجنة؛ فجنَّتُه نارٌ، ونارُه جنَّة ومعه نهران يجرِيان، أحدهما: رأي العين ماءٌ أبيض، والآخر رأي العين نارٌ تأجَّج، قال ﷺ-: "فإما أدركنَّ أحدٌ فليأتِ النهرَ الذي يراه نارًا، وليُغمِّض ثم ليُطأطِئ رأسَه فيشربَ منه؛ فإنه ماءٌ بارِد". رواه مسلم. ولك أن تتصور حجم اليقين الذي يمكنك معه العمل بهذا الحديث. ويأمرُ السماءَ أن تُمطِر فتُمطِر، والأرض أن تُنبِت فتُنبِت، ويمرُّ بالخرِبة فيقول لها: أخرِجي كنوزَكِ، فتتبَعُه كنوزُها. ومشيُه في الأرض سريعٌ، وصفَه النبي ﷺ بقولِه: "كالغَيث استدبَرَته الرِّيح". رواه مسلم. ويلبَثُ في الأرض أربعين يومًا؛ يومٌ كسنةٍ، ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كأسبوعٍ، وبقيَّةُ أيامِه كأيامِنا.
ولا يدَعُ قريةً إلا هبطَها غيرَ مكة والمدينة؛ فلا يصل إلى أهلهما أبدًا إلا من خرج منهما يريده، فإن على كل باب من أبوابها- ملائكةٌ يحرسُونَها، وإذا أراد أن يدخُل واحدةً منهما استقبَلَه ملَكٌ بيدِه السيفُ يصدُّه عنها .وقد خص الله المدينة بالأمن من فزع الدجال، وجميعُ القُرى تفزَعُ من الدجَّال سوى المدينة، لا يدخلُها رُعبُ الدجَّال ولا الخوفُ منه. وإذا مُنِع من دخول المدينة ينزلُ غربَ جبل أُحُد، ويضرِبُ فيها لِواءه، ويكونُ أكثرُ من يخرُج إليه النساء، وترجُفُ المدينةُ بأهلِها ثلاثَ رجَفَاتٍ يخرُج إليه منها كلُّ كافرٍ ومُنافِق. وإذا مكثَ حول المدينة يخرُج إليه شابٌّ يُنكِرُ عليه ادِّعاءَه الربوبيَّة ودجلَه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وهو خيرُ الناس -أو من خيارِ الناس- فيقول: أشهدُ أنك الدجَّال الذي حدَّثنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حديثَه". رواه البخاري. وخسارةُ المسلمين بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيمة؛ إذ لو كان حيًّا لكفانا إياه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن يخرُج وأنا فيكُم فأنا حَجيجُه دُونَكم". رواه مسلم. وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلُّ امرئٍ حَجيجُ نفسِه مع الدجَّال .وهذا يحتم ضرورة تحضير زاد إيماني يقيني معرفي يستعان به بعد الله على هذه الفتنة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا
فتنتة الدجال عظيمة وينبغي ألا يهملَ في البيت والمساجد التحذيرُ منه ومن خطورته، وإن الصادق المصدوق أخبرنا بعلامة تسبق خروجه، فقال ﷺ : (لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره وحتى تترك الأئمةُ ذكرَه على المنابر ) وإن من رحمة الله أن جعل لعباده أسبابًا تعصم منه: العلمُ الشرعيُّ بمعرفة أسماء الله وصفاتِه؛ فالدجَّال أعورُ، وربُّنا -سبحانه- ليس بأعوَر، والله لا يراه أحدٌ في الدنيا، والدجَّال يراه الناس، والدجَّال مكتوبٌ بين عينيه كافرٌ يقرؤه كل قارئٍ وغير قارئٍ. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "المؤمنُ يتبيَّن له ما لا يتبيَّن لغيره، ولاسيَّما في الفتن".
والفِرارُ من الفتن والابتِعادُ عنها عصمةٌ منها بإذن الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من سمِع بالدجَّال فليَنْأَ عنه -أي: ليهرُب-؛ فوالله إن الرجلَ ليأتيه وهو يحسبُ أنه مؤمنٌ فيتَّبِعه مما يبعثُ به من الشُّبُهات، أو لما يبعثُ به من الشُّبُهات". والتمسُّك بالدين فيه النجاة من الدجَّال؛ فإن أتباعَه غيرُ المؤمنين. والإكثارُ من الدعاء بالتعوُّذ منه حرزٌ وأمانٌ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا تشهَّد أحدُكم -أي: في الصلاة- فليستعِذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذُ بك من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجَّال". رواه مسلم. والقرآنُ الكريمُ أصلُ العِصمة من كل فتنةٍ، ومن سمِع بخرُوجه وهو حافظٌ لعشر آياتٍ من أول سورة الكَهف عُصِم منه بإذن الله، ومن رآه فليقرَأ عليه فواتِح سُورة الكَهف.قال -عليه الصلاة والسلام-: "فمن أدركَه منكم فليقرَأ عليه فواتِح سورة الكَهف". رواه مسلم. وإذا كثُر أتباعُه وعمَّت فتنتُه ينزلُ عيسى -عليه السلام- عند المنارة الشرقية بدمشق، فيلتفُّ عباد الله حولَه، فيلحقُ عيسى -عليه السلام- بالدجَّال حين توجُّهه إلى بيت المقدِس، فيُدرِكُه عند بابِ لُدٍّ في فلسطين، فإذا رآه الدجَّالُ ذابَ ذوَبَان المِلح، فيلحَقُه عيسى -عليه السلام- فيقتُلُه بحربةٍ.
والمُسلم مُبادِرٌ لفعل الصالِحات في كل زمانٍ وحينٍ، وهو لها أشدُّ امتِثالاً وإكثارًا حين غُربَة الدين وكثرة الفتن، قال -عليه الصلاة والسلام-: "بادِروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجَّال، أو الدابَّة، أو خاصَّة أحدكم، أو أمر العامَّة".
وطاعة النبي ﷺ حفظٌ للعبد في الرخاء والشدَّة، سألَ الدجَّالُ تميمًا الداريَّ -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة حين رأوه، سألَهم عن نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-: "ما فعل؟!" قالوا: قد خرجَ من مكة ونزل يثرِب. قال: "أقاتَلَه العربُ؟!" قلنا: نعم. قال: "كيف صنعَ بهم؟!" فأخبرناه أنه قد ظهر على من يلِيه من العرب وأطاعوه. قال لهم: "قد كان ذلك؟!" قلنا: نعم. قال: "أما إنَّ ذاك خيرٌ لهم أن يُطيعُوه". رواه مسلم.
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا)
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
المرفقات
1762424894_شرُّ غائب يُنتظر.docx
1762424894_شرُّ غائب يُنتظر.pdf