صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِصَّةٌ وَعِبَرٌ 16 جُمَادَى الأُولَى 1447هـ
محمد بن مبارك الشرافي
الْحَمْدُ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار العَزِيزِ الغَفَّار، مُكَوِّرِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ وَمُكَوِّرِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَار، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ الوَاحِدُ الجَبَّار، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسَولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْبَرَرَةِ الأَخْيَار، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَار.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتقوا الله واعلموا أنَّ نَبِيَّ اللهِ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ خِيرَةِ رُسُلِ اللهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ رَبِي وَسَلَامُهُ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ سُورَةً، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشَّمْسِ {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}, وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى ثَمُودَ وَكَانُوا يَسْكُنُونَ دِيَارِ الْحِجْرِ فِي وَسَطِ الْجَزِيرَةِ الْعَرْبِيَّةِ، قُرْبَ مَدِينَةِ الْعُلَا، إِحْدَى مُدُنِ مَمْلَكَتِنَا الْعَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ حَرَسَهَا اللهُ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَمُلَخَّصُ قِصَّتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ, وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، أَيْ: إِنَّمَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَعْتَبِْرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَعَمْلُوا بِخَلَافِ عَمَلِهِمْ، وَأَبَاحَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ تَبْنُونَ فِي سُهُولِهَا الْقُصُورَ، {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}، أَيْ: حَاذِقِينَ فِي صَنْعَتِهَا وَإِتْقَانِهَا وَإِحْكَامِهَا، فَقَابِلُوا نِعْمَةَ اللهِ بِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمُخَالَفَتَهُ وَالْعُدُولَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}, أَيْ: قَدْ كُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَقْلُكَ كَامِلًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهِيَ دُعَاؤُكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ، وَتَرْكِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعُدُولِ عَنْ دِينِ الآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَلِهَذَا قَالُوا {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيب}، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ثَمُودَ اجْتَمَعُوا يَوْمًا فِي نَادِيهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَذَكَّرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ أَنْتَ أَخْرَجْتَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً، مِنْ صِفَتِهَا كَيْتْ وَكَيْتْ وَذَكَرُوا أَوْصَافًا وَنَعَتُوهَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ عَلَى الْوَجْهِ الذِي طَلَبْتُمْ، أَتَؤُمْنِونَ بِمَا جِئْتِكُمْ بِهِ وَتُصَدِّقُونِّي فِيمَا أُرْسِلْتُ بِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَأَخَذَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ فَصَلَّى للهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَأَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ صَخْرَةً أَنْ تَنْفَطِرَ عَنْ نَاقَةٍ عَظِيمَةٍ عُشَرَاءَ، عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ الذِي طَلَبُوا، وَعَلَى الصِّفَةِ التِي نَعَتُوا، فَلَمَّا عَايَنُوهَا رَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، وَدَلِيلًا قَاطِعًا، فَآمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهُمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى {فَظَلَمُوا بِهَا} أَيْ جَحَدُوا بِهَا، وَلَمْ يَتَبِّعْ أَكْثَرُهُمُ الْحَقَّ، وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}، أَيْ: دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فِيأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}، فَبَقِيَتْ هَذِهِ النَّاقْةُ بَيْنَ أَظْهُرُهِمْ، تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ يَوْمَهَا ذَلِكَ، فَكَانُوا يُخَزِّنُونَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مَنْ لَبَنِهَا كِفَايَتَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ هَذَا اجْتَالَهُمُ الشَّيْطَانُ وَأَرَادَ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعْنَادِ، فَتَشَاوَرُوا فِي شَأْنِ النَّاقَةِ مَا يَفْعَلُونَ بِهَا، فَاتَّفَقَ رَأَيْهُمْ عَلَى أَنْ يَعْقِرُوهَا، لِيسْتَرِيحُوا مِنْهَا -بِزَعْمِهِمْ- وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ مَاؤُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ انْتَدَبَ شَابَّانِ لِعَقْرِهَا وَسَعَوْا فِي قَوْمِهِمْ بِذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ سَبْعَةٌ آخَرَونَ فَصَارُوا تِسْعَةً، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ}، وَسَعَوْا فِي بَقِيَّةِ الْقَبِيلَةِ وَحَسَّنُوا لُهُمْ عَقْرَهَا، فَأَجَابوُهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَطَاوَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَانْطَلَقُوا يَرْصُدُونَ النَّاقَةَ، فَلَمَّا صَدَرَتْ مِنْ وِرْدِهَا كَمَنَ لَهَا أَحَدُهُمْ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ عَظْمَ سَاقِهَا, ثُمَّ ابْتَدَرَهَا قَدَّارُ بْنُ سَالِفٍ فَضَرَبَ عُرْقُوبَهَا بِالسَّيْفِ فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتَ بِصَوْتٍ عَالٍ صَرْخَةً عَظِيمَةً تُحَذِّرُ وَلَدَهَا، ثُمَّ طَعَنَهَا فِي لُبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ فَصِيلُهَا فَصَعَدَ جَبَلًا مَنِيعًا فَدَخَلَ صَخْرَةً وَاخْتَفَى مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ}, فَجَمَعُوا فِي كَلامِهِمْ هَذَا بَيْنَ عِنَادٍ وَكُفْرٍ بَلِيغٍ, مِنْ وُجُوهٍ: حَيْثُ خَالَفُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي ارْتِكَابِهِمُ النَّهْيَ الْأَكِيدَ فِي عَقْرِ النَّاقَةِ التِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ آيَةً، وَاسْتَعْجَلُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ الذِي قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {فَعَقَرُوهَا, فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}، فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ صَبيحَةَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجْفَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتْ نُفُوُسُهُمْ، فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، جُثَثًا لا أَرْوَاحَ فِيهَا وَلا حِرَاكَ بِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}, أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا فِي سِعَةٍ وََرِزْقٍ وَغِنَاءٍ, {أَلاَ إِنَّ ثُمَّودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِثُمَّودَ}.
قَالَ اللهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ خَاطَبَ قَوْمَهُ بَعْدَ هَلاكِهِمْ ، وَقَدْ أَخَذَ فِي الذِّهَابِ عَنْ مَحَلَّتِهِمْ إِلِى غَيْرِهَا قَائِلًا لَهُمْ {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أَيْ: جَهِدْتُ فِي هِدَايتَكُمْ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَنِي، وَحَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِي وَفِعْلِي وَنِيَّتِي، {وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} أَيْ: لَمْ تَكُنْ سَجَايَاكُمْ تَقْبَلُ الْحَقَّ وَلا تُرِيدُهُ، فَلِهَذَا صِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، اْلْمُسْتَمِرِّ بِكُمْ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةً.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا مُخْتَصَرٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَالِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَوْفَ نَذْكُرُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ بِإِذْنِ اللهِ بَعْضَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الوَارِدَةِ بِشَأْنِ، هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَظِيمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْقَى بَعْضَ آثَارِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ التِي نَرَاهَا وَنَعْرِفُهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَفَكَّرَ فِيمَا حَصَلَ لَهُمْ, وَنَأْخُذَ الْعِبرَ وَنُقْبِلَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّنَا وَنَخْشَى عَذَابَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِمَّا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِشَأْنِ الاعْتِبَارِ بِدِيَارِ ثُمَّودَ عِنْدَ زِيَارَتِهَا، مَا رَوَاه ابْنُ عُمَرَ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَامَ تَبُوكَ, نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثُمَّودَ، فَاسْتَسْقَى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا ثُمَّودُ، فَعَجَنُوا مِنْهَا، وَنَصَبُوا الْقُدُورَ بِاللَّحْمِ, فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَرَاقُوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا قَالَ (إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَرْنَاؤُوط.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ َضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْحِجْرِ (لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ)، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرَّ بِمَنَازِلِهِمْ قَنَّعَ رَأَسْهُ، وَأَسْرَعَ رَاحِلِتَهُ، وَنَهَى عَنْ دُخُولِ مَنَازِلِهمْ ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا بَاكِينَ, وَفِي رِوَايَةٍ (فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ)، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ تَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَنَادَى فِي النَّاسِ (الصَّلاةُ جَامِعَةٌ) قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ وَهُوَ يَقُولُ (مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) فَنَادَاهُ رَجَلٌ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ (أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجَلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّ اللهَ لا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي قَوْمٌ لا يَدْفَعُونَ عَنْ أُنْفُسِهِمْ شَيْئًا)، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
فَاللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الاعْتِبَارَ وَحُسْنَ الاسْتِبْصَارِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْغَفْلَةِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الْعَامِلِينَ بِهِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ عَلَى نُورٍ وَبَصِيرَةٍ، اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ القَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَه، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا وَأَصْلِحْ لَنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنا وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ أَتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ إِمَامَنَا خَادِمَ الحَرَمَينِ الشَّرِيفِينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ بِطَانَتَهُمْ وَوُزَرَاءَهُمْ يَا رَبَّ العَالمَينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ, وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينْ.
المرفقات
1762356511_صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِصَّةٌ وَعِبَرٌ 16 جُمَادَى الأُولَى 1447هـ.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق