صورةُ العبادةِ وحقيقتُها

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/12/16 - 2025/06/12 17:28PM

صورةُ العبادةِ وحقيقتُها

 


الحمدُ لله العليمِ الحكيمِ، الذي أحكم خلقَه وأحكم أمرَه، وخلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تقديرًا، شَرَعَ الشرائعَ وفرضَ العباداتِ ليرتقي بالإنسانِ في مدارجِ الخلقِ، فيكونَ بذلك في أعلى الدرجاتِ، وسيِّدِ الموجوداتِ، فيصحَّ بذلك وعدُه حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

 


والصلاةُ والسلامُ على من بعثَه ربُّه بالكتابِ والحكمةِ؛ ليُعلِّمَ الناسَ، ويُزكِّيَهم، فكان لهم القُدوةَ المثلى في تجرُّدِه عن الأهواءِ، والنموذجَ الماثلَ والأمثلَ، لتحقُّقِ التقوى والإيمانِ، فارتقى بذلك في العلياءِ، فكان أسمى الخلقِ وأفضلَهم في الدنيا، ويومَ الحشرِ، يومَ تُبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسماوات.

 


أما بعد:

 


فأُوصيكم - أيُّها الإخوةُ - ونفسي بتقوى اللهِ؛ وصيَّةِ اللهِ للأوَّلينَ والآخِرين، بل وصيَّته للأصفياءِ والأنقياءِ من خلقِه من الأنبياءِ والمرسلين:

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

 


أيُّها الكرامُ، إنَّ لكلِّ عبادةٍ صورةً وحقيقةً؛

صورتُها ما نراه ونشاهده من أركانِها وشروطِها وواجباتِها،

وحقيقتُها: الخضوعُ والاستسلامُ لله، وتهذيبُ النفوسِ وتزكيتُها من أهوائِها وشهواتِها، وتخليصُها من نوازعِها الشريرةِ وأطماعِها الحقيرة.

 


فالصلاةُ - مثلًا - صورتُها: القيامُ، والركوعُ، والسجودُ، وتلاوةُ الكتابِ،

وحقيقتُها: الطمأنينةُ، والخشوعُ، والرُّقِيُّ بالنفسِ البشريَّةِ من درجةِ الحيوانيَّةِ إلى درجةِ الإنسانيَّةِ الحقيقيَّة:

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ).

 


والصومُ، صورتُه: الإمساكُ عن الأكلِ والشربِ، من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ،

وحقيقتُه: الوصولُ بالعبدِ المسلمِ إلى مرتبةِ التقوى، التي هي انتصارُ الإرادةِ على الرغبةِ والشهوةِ:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 


والزكاةُ، صورتُها: بذلُ المالِ للفقيرِ والمسكينِ،

وحقيقتُها: انكسارُ قلبِ الباذلِ للمالِ لحالِ الفقراءِ والمحتاجين، وتركُ التعالي عليهم وأذيَّتِهم، والانتصارُ على صفةِ البخلِ والشُّحِّ:

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

 


وصورةُ الحجِّ: التلبيةُ، والطوافُ بالبيتِ، والسعيُ بين الصفا والمروةِ، والوقوفُ بعرفةَ، والمبيتُ بمِنًى ومزدلفةَ، ورميُ الجمارِ، وحلقُ الشعرِ، وذبحُ الهدي والأضاحي.

وحقيقتُه: الامتثالُ والاستسلامُ لأمرِ الله، وتحقيقُ التقوى، ومغفرةُ الذنوبِ، وتكفيرُ السيئاتِ، وائتلافُ قلوبِ المسلمين، وتحقيقُ وحدتِهم واجتماعِهم:

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

وقال: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

 


إذا تقرَّر هذا - معشرَ الإخوةِ - فلنعلَمْ أنَّ حقيقةَ العبادةِ هي المقصودةُ، وأنَّ صفتَها الظاهرةَ هي مجرَّدُ وسيلةٍ لهذا المقصودِ.

ومن حقَّق الوسيلةَ دون الغايةِ، فلا معنى لعبادتِه.

ولو كان أداءُ العبادةِ في صورتِها هو المقصودَ؛ لنفعت عبادةُ المنافقين، فإنهم كانوا يُصلُّون، ويحجُّون، بل ويجاهدون مع نبيِّ الله عليه الصلاة والسلام، ولكن كلَّ ذلك مردودٌ عليهم.

 


جاء في الحديثِ الصحيحِ، الذي أخرجه البخاريُّ وغيرُه، أنَّ رجلًا صلَّى بلا خشوعٍ ولا طمأنينةٍ، والنبيُّ ﷺ ينظرُ إليه، فقال له: (ارجِعْ فصلِّ فإنك لم تُصلِّ)، فحكم عليه النبيُّ ﷺ بأنَّه لم يُصلِّ رغم أنَّه أقام صورةَ الصلاةِ.

 


وروى البخاريُّ، عن النبيِّ ﷺ أنَّه قال: (من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به، فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه)، لأنَّ حقيقةَ العبادةِ والمقصودَ منها غاب، فلا حاجةَ في صورتِها.

 


وأخرج الإمامُ أحمدُ وغيرُه، إنكارَ النبيِّ ﷺ على أبي بكرٍ ضربَه لغلامِه، وهو مُحرِمٌ، فقال: “انظروا هذا المحرِمَ ماذا يصنع”، لأنَّ هذا الصنيعَ يتنافى مع روحِ النُّسكِ، وحقيقتِه.

 


وبعد هذا التَّطوافِ - معاشرَ الفضلاءِ - مع هذه الآياتِ والأحاديثِ، وهذا التقريرِ لهذه الحقيقةِ الشرعيَّةِ، يجدرُ بنا - وبعد انقضاءِ هذا العامِ، وتصرُّمِ مواسمِ الخيرِ، من صيامِ رمضانَ، وأداءِ الزكاةِ، وبذلِ الصدقاتِ، والحجِّ والعمرةِ، وما تخلَّل ذلك وصحبَه من أداءِ الصلواتِ - أن ننظرَ في أنفسِنا ونحاسبَها:

 


هل غيَّرتنا هذه العباداتُ العظيمةُ؟!

هل أثَّرت في سلوكِنا؟!

هل هذَّبت أرواحَنا؟!

هل ارتفعنا بها إلى درجةِ المتقين؟!

أم دخلنا وخرجنا ونحنُ كما نحن؟!

 


إننا إذا تأمَّلنا القرآنَ، لوجدنا أنَّ اللهَ يعرِّفُ بالتقوى والمتقين، بصفاتٍ سلوكيَّةٍ عمليَّةٍ، وذلك حتى نتمكَّنَ من اكتسابِها، وطردِ ما يُضادُّها في نفوسِنا، وحتى نتمكَّنَ أيضًا من تقييمِ أنفسِنا ومحاسبتِها، وهل أدَّينا العبادةَ كما ينبغي، وبلغت بنا إلى غايتِها أم لا؟!

يقول الله في معرضِ ذكرِ صفاتِ المتقين، وليؤكِّد - أيضًا - على أنَّ العباداتِ ليست صورًا وأشكالًا، بل حقيقةٌ يُراد منها تهذيبُ النفوس:

(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

ويقول أيضًا: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

 


فها هيَ صِفاتُ المتقين، أخلاقٌ فاضلةٌ، وصِفاتٌ نبيلةٌ؛ صدقٌ وصبرٌ، وعفوٌ وإحسانٌ، وتوبةٌ واستغفارٌ، وحِلْمٌ وأناةٌ، وإقامٌ للصلاة، وإيتاءٌ للزكاة، ووفاءٌ بالعُهود والمواثيق.

 


ولنا الآنَ أن نسألَ أنفسَنا: هل دَنونا منها بصَلاتِنا وصِيامِنا وحَجِّنا وعُمرتِنا وصَدقاتِنا طُوالَ العام؟!

 


فانتصر بها كرمُنا على بُخلِنا وشُحِّنا..

وانتصر بها عفْوُنا على حِقدِنا..

وانتصر بها صدقُنا على كذِبِنا..

وانتصر بها صبرُنا على جزَعِنا..

وانتصر بها استغفارُنا وتوبتُنا على ذنبِنا وإصرارِنا..

وانتصر بها حِلْمُنا وكظْمُنا للغيظِ على غَضَبِنا وطَيشِنا..

 


أم أننا دخلْنا إلى هذه المواسمِ طُوالَ العامِ بآفاتِنا وعاداتِنا السيئةِ، ولم تُفلِحْ هذه العباداتُ العظيمةُ في تخليصِنا منها؟!

 


إن كانَ كلُّ ذلك أو بعضُهُ صحيحًا، فنحنُ - وللأسفِ - أصَبْنا صورةَ العبادةِ، ولم نُصِبْ حقيقتَها!!

 


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذِّكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

 


 


الخطبة الثانية:

 


الحمدُ لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعده، أمّا بعد:

 


أيُّها الكِرامُ الفُضلاء:

 


ثبَتَ من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه، الذي أخرجه مسلمٌ، أنَّ النبيَّ -عليه الصلاةُ والسلام- قال:

«إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صُوَرِكم ولا إلى أجسامِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم».

 


نعم، إنّها القلوبُ، مَحطُّ نظرِ الله، ومصدرُ الخيرِ والصلاحِ في الإنسان، وعلى سلامتِها يكونُ مدارُ النجاةِ يومَ القيامة، كما قال الخليلُ عليه السلام: ﴿وَلا تُخزِني يَومَ يُبعَثونَ ۝ يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ ۝ إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ﴾ [الشعراء: ٨٧-٨٩]

وإنّما شُرِعَت العباداتُ العظيمةُ - يوم شُرِعت - من أجلِ صلاحِ القلوبِ واستصلاحِها.

 


ومِمّا ابتُلِينا به في هذه الأزمنةِ: إهمالُ القلوبِ، وعدمُ الاهتمامِ بها، والاكتفاءُ من التديُّنِ والعباداتِ بالصُّورِ والأشكالِ والطُّقوسِ، دونَ الاهتمامِ بحقيقةِ التديُّنِ والعبادةِ، والوصولِ بها إلى غايتِها في أنفسِنا، وفي قلوبِنا، وفي مجتمعاتِنا.

 


وقد نعى اللهُ على المشركينَ اهتمامَهم بصورةِ الدينِ والعبادةِ دونَ حقيقتِها.

 


فقد كانوا إذا أحرَموا، لم يدخلوا البيوتَ من أبوابِها، بل يَتسوَّرون من ظهورِها، أو يُنقِبون في مؤخَّرَتِها كُوَّةً فيدخُلون منها، ويظنّونَ ذلك أدنى للبِر، فأنزل الله فيهم قولَه:

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.

 


وكذلك قال عنهم:

﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

 


وأخيرًا، لا يذهبْ بكَ الظنُّ بعيدًا، أنَّ العباداتِ في صورتِها وشروطِها وأركانِها ليستْ مطلوبةً، بل هي مطلوبةٌ وواجبةٌ، ولا سبيلَ للتقوى كما أرادَه اللهُ إلّا من خلالِها، ولكنْ كان القصدُ التنبيهَ والتحذيرَ من ضياعِ المقصودِ الأعظمِ منها، والاكتفاءِ بإقامتها في صورتِها الظاهرةِ، والظنِّ بأنَّ ذلك غايةُ ما يُرادُ منَّا.

 


اللهم اجعلنا من المؤمنينَ حقًّا، ومن المصلّينَ حقًّا، ومن الصائمينَ حقًّا، ومن المُزكّينَ حقًّا، ومن الحاجِّينَ حقًّا.

رَبَّنا تَقبَّلْ مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا، إنَّك أنتَ التوابُ الرحيم.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ أعداءَك أعداءَ الدين..

المرفقات

1749738509_نسخة صورة العبادة وحقيقتها.docx

المشاهدات 331 | التعليقات 0