ضوابط التسويق في السنة النبوية

د مراد باخريصة
1447/05/22 - 2025/11/13 20:40PM

ضوابط التسويق في السنة النبوية:

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أحلَّ البيع وحرَّم الربا، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الغش والظلم والعدوان، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل في الحلال بركةً ونماء، وفي الحرام محقًا ووبالًا وشقاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: «رحم الله رجلًا سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة المسلمون:

لقد أصبحت القوة الاقتصادية اليوم مظهرًا من مظاهر قوة الأمم وهيبتها بين الشعوب، ومن أدوات التأثير في القرار والسيادة، بل صارت الحرب الاقتصادية أفتك من الحرب العسكرية.

وفي خضم هذه المعارك الاقتصادية، ينبغي للأمة المسلمة أن تكون واعية في تعاملاتها التجارية، وأن تبني اقتصادها على أسس شرعية، تستمد ضوابطها من القرآن والسنة، لا من الأهواء والأسواق المفتوحة بلا ضابط ولا رقيب.

أن التسويق ليس مجرد دعاية أو إعلان كما يظنه بعض الناس، بل هو – كما عرفه الباحثون – فنّ إيصال المنتج أو الخدمة إلى المستهلك بوسائل تحقق المنفعة للطرفين.

غير أن الإسلام، وهو دين الوسط والاعتدال، لا يمنع التسويق ولا التجارة، ولكنه يضبطها بالشرع والأخلاق، حتى لا تتحول من وسيلةٍ للكسب الحلال إلى وسيلةٍ للاستغلال والإفساد كما قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]ـ

فالتجارة الملتزمة بشرع الله عبادةٌ وقربة، إذا خلت من الغش والاحتكار والظلم، وكان فيها نية الإصلاح والإعمار، لذا حدد الإسلام ضوابط شرعية في التسويق ومن أهمها: تحريم الاحتكار، كما قال ﷺ: «من احتكر فهو خاطئ». فالاحتكار لا يقتصر على السلع الغذائية، بل يشمل التحكم في الأسعار، وتخزين البضائع، واحتكار الخدمات الرقمية والاتصالات والدواء.

واليوم وللأسف الشديد نرى في واقعنا كيف تُستغل حاجة الناس، وكيف يرفع بعض التجار الأسعار دون مبرر شرعي وهذا ظلمٌ بيّنٌ، لأنه يمنع تداول النعمة بين الخلق، ويحبس رزق الله عن عباده، لذا نهى الله عن ذلك فقال: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ [الحشر: 7].

فلنحذر أن نكون سببًا في معاناة الناس أو غلاء معيشتهم، فالمحتكر لا يبارك الله في ماله، وإن ظن أنه رابح، فهو عند الله خاسر.

كما نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الغش والخداع، فقد مرّ النبي ﷺ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فوجد بللًا، فقال: «ما هذا؟» قال: أصابته السماء. فقال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني».

والغش في التسويق اليوم قد يتخذ صورًا متعددة منها: صور مزيفة تُظهر المنتج بخلاف حقيقته، وإعلانات كاذبة تُبالغ في الفوائد وتتجاهل الأضرار، وترويج عبر المؤثرين دون بيان حقيقي لصفات السلعة، وكل ذلك غشٌ وخيانة للأمانة، والله تعالى يقول: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85].

أيها التاجر المسلم، إن الله مطلع على نيتك في البيع، فإن قصدت النصح بارك الله لك، وإن قصدت الخداع، محق الله رزقك.

وتجب النصيحة في جميع المعاملات التجارية فالدين النصيحة، والتسويق في الإسلام يجب أن يقوم على الصدق والشفافية؛ وأن تبيّن للزبون ما في السلعة من نفعٍ وضرر، ولا تخفي عليه العيوب أو تلبّس على الناس وتخادعهم.

فموظف التسويق في الشركة يجب أن يكون داعيةً إلى الخير والأمانة، لا إلى التغرير بالمستهلك، والمجتمعات المسلمة بحاجة إلى ثقافة تسويقية أخلاقية، تجعل رضا الله فوق رضا السوق، وتجعل الصدق شعارًا لا إعلانًا.

كما أن من ضوابط التسويق تحريم التسويق للمحرّمات، كما قال ﷺ: «إن الله إذا حرّم شيئًا حرّم ثمنه»، فلا يجوز تسويق ما حرّمه الله، كالمخدرات، والمشروبات المحرمة، والأفلام الخليعة، ولا ما يفسد الأخلاق أو يثير الشهوات، ولو كان يدرّ أموالًا طائلة، فما قيمة الربح إذا خسر صاحبه دينه؟! وللأسف فإن واقعنا اليوم تُنفق مليارات الدولارات في الإعلانات الفاسدة، بينما يُهمل تسويق الخير والعفاف والعلم.

ويجب تجنّب الشبهات فالحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن الشبهات في عصرنا:

التسويق عبر الشبكات الهرمية التي تقوم على الغرر والربا، والجوائز الوهمية التي تُغري الناس بالمقامرة، والعمولات المجهولة التي تخفي الغبن والاستغلال، ومن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعِرضه، ومن تهاون فيها سقط في الحرام وهو لا يشعر.

كما يجب الحذر من النجش والمنافسة المحرّمة، يقول ﷺ: «لا يبع بعضكم على بيع بعض».

فمن أساليب التسويق الفاسدة: أن يرفع أحدهم سعر سلعةٍ لا يريد شراءها ليغري غيره، أو أن يخفض سعره عمدًا ليهلك منافسه، أو ينشر عنه الإشاعات الكاذبة، وكل هذا من النجش والتدليس، وهو حرام، لأنه يزرع البغضاء بين المسلمين، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة: 91].

ومن ذلك تحريم بيع ما ليس عندك، كما قال ﷺ لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك».

وفي واقعنا: كثير من المسوقين يبيعون منتجاتٍ لم يمتلكوها بعد، فيأخذون الأموال ثم يعجزون عن التسليم، أو يماطلون، والواجب أن يكون البيع على ما تملك وتقدر على تسليمه، وأن تتجنب استغلال حاجة الناس فإن الله يقول: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.

ومن أخطر صور التسويق المعاصر: استغلال الأزمات والحروب والمجاعات لرفع الأسعار أو بيع الرديء على أنه جيد، بل وصل الاستغلال إلى التلاعب بالعقول عبر إعلانات تُغري المراهقين والاستهلاكيين بالاقتراض والإنفاق غير المسؤول، فهذا نوع جديد من الاحتكار النفسي، أخطر من احتكار السلع!

إن الإسلام لا يريد من التاجر أن يربح فقط، بل يريد منه أن يُسهم في بناء المجتمع، وأن يجعل من تجارته وسيلةً لنشر الخير، فالمسلم إذا باع باع لله، وإذا سوّق سوّق بالحلال، وإذا ربح، شكر، وإذا خسر، صبر.

فالتسويق في ضوء السنة النبوية ليس مجرد معادلة تجارية، بل منظومة أخلاقية متكاملة تُحافظ على الكرامة والعدالة والتكافل ولهذا قال ﷺ: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى».

قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم ..

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أيها الأحبة: إن واقعنا الاقتصادي اليوم يئنّ من آثار الربا، والاحتكار، والغش، والغرر، حتى أصبح كثير من الناس لا يميز بين الحلال والحرام، ونحن بحاجة إلى عودة صادقة إلى فقه المعاملات في السنة النبوية، وأن نقرأه لا كتراثٍ فقهيٍّ قديم، بل كجانب عمليٍّ للحياة الاقتصادية المعاصرة.

لقد قدّمت السنة المطهرة أصولًا عظيمة في التسويق مثل الصدق بدل الخداع، العدل بدل الاستغلال، الشفافية بدل الغرر، والتكافل بدل الأنانية، والأمانة بدل الطمع، فمن جعل هذه القيم منهجه في عمله، صار تسويقه عبادة، وربحه زكاة، وتجارته دعوة إلى الله.

يا أصحاب الشركات والمتاجر والمواقع الإلكترونية: اعلموا أن تسويقكم للمنتجات ليس مجرد كسب مادي، بل شهادة أمام الله على أمانتكم، فاحذروا أن تروجوا لما يضر الناس في دينهم أو دنياهم، أو أن تُغريهم بما لا يملكون.

واعلموا أن الله سائلكم عن كل إعلانٍ كاذبٍ، وكل سلعةٍ مغشوشةٍ، وكل مالٍ أُخذ بغير حق، يقول النبي ﷺ: «لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع... وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه».

إننا نعيش في عصرٍ أصبحت فيه وسائل التسويق الحديثة – عبر الإنترنت ووسائل التواصل – بابًا واسعًا للخير أو الشر، فمن استعملها في نشر الفضيلة وخدمة المجتمع وتيسير حاجات الناس فهو مأجور، ومن جعلها وسيلةً للتضليل ونشر الرذيلة فهو مأزور.

فلنربط بين العلم الشرعي والتقنية الحديثة، ولنجعل من الاقتصاد الإسلامي نموذجًا للعالم في العدالة والنزاهة، فالمسلم الصادق في عمله اليوم هو خير داعيةٍ إلى الإسلام من ألف خطيب، لأن الناس يرون في صدقه وسلوكه حقيقة هذا الدين، ولنعلم أن الاقتصاد الإسلامي ليس حلمًا نظريًا، بل واقعٌ ممكن إذا التزمنا بالضوابط التي وضعها النبي ﷺ في البيع والتسويق.

فإذا تحرّينا الحلال، وتركنا الحرام، وصدقنا في القول والعمل، أعاد الله لنا بركة الرزق والأمن في الأسواق، كما أعاد لأمتنا عزتها وكرامتها.

﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].

اللهم طهر أموالنا من الحرام، وبارك لنا في أرزاقنا، واغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمّن سواك،

اللهم أصلح تجار المسلمين، ووفقهم لما تحب وترضى، وبارك في اقتصاد أمتنا بالإيمان والتقوى.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

1763055647_ضوابط التسويق في السنة النبوية.doc

المشاهدات 142 | التعليقات 0