علمنا جريج 20/3/1447

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1447/03/19 - 2025/09/11 13:38PM

الحمد لله وحده يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من بلغ ونصح وأرشد ودعا إلى الحق المبين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى ومصابيح الدجى وخير العاملين وسلم تسليماً كثيراً .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم.

القصص منهج قرآني وهدي نبوي وأسلوب دعوي غايته تهذيب النفوس وحثها على العمل وحجزها عن الموبقات ( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون )

القصص تربية وتزكية وتثبيت وتجلية لما يصيب النفس من أمراض وانحرافات وما يعتريها من تكبر وغرور ( وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنباء الرُّسُلِ )

 ولتأثير القصة في النفوس قال الإمام أحمد رحمه الله : (ما أحوج الناس إلى قاص صادق).

ومن المورد النبوي نتفيؤ ظلال قصة لاريب فيها نغترف من معينها غرفات ونرتشف من رحيقها رشفات مع قصة قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأصحابه فيها نهر من الدروس والعبر ومورد للتفكر والأثر.

روى مسلم في صحيحه والبخاري مختصراً عن أبي هريرة أنه قال : كان جريج يتعبد في صومعة فجاءت أمه قال حميد فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله الله صلى الله عليه وسلم  أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها ثم رفعت رأسها إليه تدعوه فقالت : يا جريج أنا أمك فكلمني فصادفته يصلي فقال : اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته فرجعت ثم عادت في الثانية فقالت : يا جريج أنا أمك فكلمني قال : اللهم أمي وصلاتي فاختار صلاته فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات وقال : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن قال وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره ( اي صومعته ) فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي فحملت فولدت غلاماً فقيل لها ما هذا ؟ قالت من صاحب هذا الدير، قال : فجاؤوا بفؤوسهم ومساحيهم فنادوه فصادفوه يصلي فلم يكلمهم فأخذوا يهدمون ديره فلما رأى ذلك نزل إليهم فقالوا له : سل هذه قال : فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك، قال: أبي راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك منه :قالوا نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة ، قال : لا ، ولكن أعيدوه تراباً كما كان ثم علاه وفي رواية عند مسلم قال الله : « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت يا جريج فقال : يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت : ياجريج فقال : يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات

فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي فجاءوا به فقال : دعوني حتى أصلي فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال : يا غلام من أبوك قال : فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا .

تلك قصة جريج العابد ، حوت دروسا وعبرا ، وتعلمنا فوائد ودررا

علمتنا أن العقوق ليس بالضرورة يصدر من الأبناء غير المتدينين ، بل رب ولد غير ملتزم كان مضرب المثل في البر والوفاء والإكرام لوالديه، يخفض لهما جناح الذل من الرحمة ويسعى في حوائجهما ويرهق نفسه في سبيلهما ، وفي الوقت ذاته قد يصدر العقوق من أهل الصلاح والمحسوبين على الالتزام ممن يتعلل بدعوة أو عبادة أو طلب علم أو تعليم قرآن وحينها يكون الأمر أشد والخطب أفظع .

علمتنا قصة جريج أن طاعة الوالدين مقدمة على نوافل العبادات وأن أعمال العاملين وإن كثرت وطاعة المطيعين وإن ،عظمت وزهادة الزاهدين وإن تناهت لاتوازي يسير العقوق، فجريج كان من أعبد بني إسرائيل وأفضل أهل زمانه خرقت له العادة وكوشف بالكرامة ثم عوقب بأن لم يجب نداء أمه فما الظن بمن كان دونه في الفضل وفوقه في العقوق.

علمتنا قصة جريج أثر دعاء الوالدين لأولاده وعليهم ، فهي من الدعوات المستجابة ، فاحذر من دعوات والديك حين يتجرعون مرارة عقوقك ، والتمس دعواتهما لك فثم التوفيق والبركة والرزق والحياة المطمئنة ، وياأيها الوالدان : احذروا في ساعة غضب من دعوة على ابنائكم وبناتكم ، لاتوافقوا من الله ساعة فيستجيب لكم فتندموا حين لاينفع الندم

علمتنا قصة جريج أن عقوبات الذنوب المعنوية أشد وأنكى من العقوبات الحسية فأم جريج حين دعت على ابنها وهي تعالج مرارة العقوق و الإعراض من الابن المستقيم لم تدع عليه بأن يهلكه الله أو أن يشل يمينه، أو يفقد ماله، وإنما دعت عليه بأن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات الزانيات لأنها تدرك أن أعظم عقوبة على أصحاب القلوب المؤمنة الحية وذوي الأبصار والبصائر الواعية هي أن ترى مالم تألف من المنكرات ، وأم جريج وهي تدعو بذلك لم تشعر أنه سيأتي زمان يكون فيه مشاهدة المومسات أمراً مألوفاً من خلال الشاشات والقنوات والجوالات ..وسيأتي جيل لا يدرك أن النظر إلى المومسات عقوبة إلهية على ذنب عظيم، جيل لا يستشعر أن العقوبة على الذنب تكون بالحرمان من طاعة والولوغ في ذنب .

فياليت العاكفين على الشاشات والمشاهدين للممثلات يدركون أنهم تحت حمم عقوبة إلهية حينما يشاهدون الممثلات المومسات حقيقة أو حكماً، وياأيها المطلقون لأبصارهم في مشاهدة الحرام: اسمعوا وعوا فإن العين تزني وزناها النظر، وغضوا أبصاركم ذلك أزكى لكم والله خبير بما تصنعون

مسكين من يظن أن العقوبة على المعاصي هي فقط خسف ومسخ وزلزلة ورجفة وصيحة، فمن أعظم العقوبات على فعل المعاصي والموبقات حرمان الطاعات وفقدان لذة المناجاة، ومن أعظم العقوبات لفعل المعصية عدم الشعور بأثر المعصية . وإذا كان جريج وهو العابد الزاهد قد عوقب على معصيته بالابتلاء بمعصية فما ظنك بالمقصرين المذنبين أمثالنا . وكم من نظرة أنست سورة ، وكم من أكلة منعت قيام ليلة ، وكم من ذنب في النهار حرم صاحبه عبادة الليل وصلاة الفجر

يُذكر أن حبراً من أحبار بني إسرائيل قال : يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان أن قل له، يقول الله تعالى لك: كم أعاقبك وأنت لا تشعر ألم أسلبك حلاوة مناجاتي .. أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب .

الخطبة الثانية أما بعد

وعلمتنا قصة جريج أن الصلاة مفزع كل مكروب وملجأ كل مهموم ، فهي اتصال بالخالق وارتباط بالرازق ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، فالصلاة الصلاة في منشطكم ومكرهكم وفي سرائكم وضرائكم ، فمن ارتبط بالصلاة فقد سلك طريق النجاة

علمتنا قصة جريج من خلال موقف قومه حينما تعجلوا باتهامه وأرادوا تشويه صورته أن أعداء الإسلام لا يفتأون يحاولون تشويه صورة الصالحين والمصلحين وتلفيق التهم الكاذبة عليهم واتهامهم في سلوكهم ومناهجهم الدعوية، بإنشاء وتلفيق الأكاذيب والاتهامات وتصيد الأخطاء العلمية والعملية ونشرها بين الناس وإعطائها حجماً كبيراً فيزيدون شائعات مكذوبة على أمر صغير .

والأمر الأمر أن تجد من المسلمين من يرضون أن يستمعوا لمثل هذه الاتهامات ويبادرون إلى تصديقها ويبنون عليها مواقف من الحب والبغض والولاء والبراء، هذا فضلاً عن فريق من أصحاب القلوب المريضة التي تحب البحث ونشر مثل هذه الأمور وقد قال الله تعالى وفيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » .

إن الخطأ الكبير الذي نقع فيه هو أننا نسارع إلى تصديق ما يلفق ضد إخواننا المسلمين وبخاصة الصالحين من تهم باطلة ونجعل منها فاكهة لمجالسنا، وسرعان ما يتضح الحق فنلجأ إلى الاعتذار ومحاولة ترقيع ماخرقناه ..

وإذا كان جريج قد برئت ساحته بكرامة من الله وعائشة الصديقة رضى الله عنها برئت بآيات من الله فمن يبرئ ساحة الصالحين اليوم حينما يتهمون بما ليس فيهم .

إن على المسلم حينما يتهم أحد إخوانه أو يساء الظن به  أن يقدم حسن الظن بأخيه المسلم ( لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بأنفُسهم خيرا ) ، وأن يطلب الدليل الخارجي البرهاني (لولا جَاءوا عليه بأربعة شهداء ) وألا يتحدث بما سمعه ولا ينشره ولو فعلنا ذلك لماتت التهم الباطلة في مهدها ولم تجد من يحييها ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لنا أن نتكلم بهذا سبحانك ) وأن يذب عن عرض إخوانه ويدافع عنهم وفي الحديث : من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار .

قال سفيان بن الحصين كنت جالساً عند أياس بن معاوية فمر رجل فنلت منه فقال: اسكت ثم :قال يا :سفيان هل غزوت الروم، قلت لا قال : غزوت الترك، قلت : لا ، قال سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم . قال : فما عدت إلى ذلك بعد.

وذكر عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه أضاف أناساً فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز .

إنه لايصح أن نكون صدى لقول كل أفاك أثيم ومنبراً متحركاً لنشر اتهامات المبطلين فنجني على إخواننا ونسيء سمعة الصالحين منا كما فعل أهل القرية مع جريج، وكان الواجب عليهم أن يتحققوا من مقولة المرأة البغي قبل أن يفعلوا مافعلوا

وتبقى قصة جريج مثالا للعفة والنزاهة ودليلا على أثر الإيمان وبحر فوائدها زاخر باللآليء لمن ينشد الحق ولمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ... اللهم صل وسلم

المرفقات

1757587094_علمنا جريج.doc

المشاهدات 742 | التعليقات 0