على عتباتِ الأضرحةِ
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، ولا ربَّ سِواه، الَّذي ملأَ بِنورِ وجهِهِ أرجاءَ عرشِهِ وأرضِهِ وسَمَاهُ.
والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن عظَّمَ اللهَ حقَّ التَّعظيمِ، ونفَى عنه النِّدَّ والشَّريكَ، وأمرَ النَّاسَ بإخلاصِ العبادةِ له، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ، أيُّها النَّاسُ، مَن أرادَ أن يكونَ مِنَ المتَّقينَ، فلا يعبُدْ إلَّا ربَّ العالمينَ، فيغفرِ اللهُ له بذلك ذنبَه، ويُلحِقْهُ بالصَّالحينَ، قال تعالى:
﴿أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقوهُ وَأَطيعونِ  يَغفِر لَكُم مِن ذُنوبِكُم وَيُؤَخِّركُم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَو كُنتُم تَعلَمونَ﴾ [نوح: ٣-٤].
أيُّها الإخوةُ الكِرامُ، مِنَ المستقِرِّ والمعروفِ، أنَّه إذا مُسَّ حقٌّ لأحدِنا أو انتُقِصَ منه، سواءٌ حقُّ نفسِه، أو حقُّ عزيزٍ عليه؛ كأمِّه وأبيه، أو حقُّ فصيلتِه الَّتي تُؤويه، أو حقُّ بلدِه الَّذي ينتمي إليه؛ استشاطَ غضبًا، وهبَّ منافحًا ومدافعًا.
ولا يُلامُ الإنسانُ في حقٍّ ذبَّ عنه.
ولكنْ ما بالُنا إذا مُسَّ أعظمُ الحقوقِ على الإطلاقِ، وهو حقُّ اللهِ سبحانه وتعالى، أَصابَنا التبلُّدُ والجُمودُ، والتَّجاهلُ والصُّدودُ، وعلى أحسنِ الأحوالِ تصدُرُ عنَّا أدنَى ردودِ الأفعالِ، مُجرَّدةً مِنَ العاطفةِ الحقيقيَّةِ، طَلَبًا للسَّلامةِ والمَعاذيرِ.
إنَّ حقَّ اللهِ الَّذي نَعنيه، وبيَّنتْهُ النُّصوصُ الواضحةُ الجليَّةُ، هو حقُّ التَّوحيدِ، بأنْ يُعبَدَ وحدَه لا شريكَ له.
عن معاذِ بنِ جبلٍ رضيَ اللهُ عنه، قال:
«كنتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حمارٍ، فقال لي: يا مُعاذُ، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ، وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟
قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ.
قال: حقُّ اللهِ على العبادِ أن يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وحقُّ العبادِ على اللهِ ألَّا يُعذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا».
[البخاري ومسلم].
وكان عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لا يَغضبُ لنفسِه ولا ينتصرُ لها، وإنَّما غضبُه ونُصرتُه للهِ إذا انتُهكت محارمُه، كما وصفتْه عائشةُ رضيَ اللهُ عنها:
«واللهِ ما انتقمَ لنفسِه في شيءٍ يُؤتى إليه قطُّ، حتَّى تُنتَهَكَ حُرماتُ اللهِ، فيَنتقِمَ للهِ». [البخاري].
ولأنَّ التَّوحيدَ أعظمُ حُرمةً عند اللهِ، فقد كان أبغضُ شيءٍ إليه عليهِ السَّلامُ الأصنامَ والأندادَ الَّتي تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ.
فمنذُ أن بُلّغَ، لم يقرَّ له قرارٌ، وتَجشَّمَ المصاعبَ والأخطارَ، حتَّى طَعَنَها بقوسِه عندَ الكعبةِ وهي تَتَهاوى على وجوهِها، وهو يتلو: ﴿جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ ﴾ [الإسراء: ٨١]. [البخاري]
ثمَّ انفتلَ عليهِ السَّلامُ بعدَ ذلك، يُطهِّرُ ما تبقَّى من أصنامٍ ووثنيَّةٍ في جزيرةِ العربِ وفي نفوسِ أهلِها، فبعثَ البعوثَ والسَّرايا لهدمِها.
عن أبي الهياجِ الأسديِّ قال: قالَ لي عليُّ بنُ أبي طالبٍ:
«ألا أبعثُكَ على ما بعثَني عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟
أنْ لا تدَعَ تمثالًا إلَّا طَمَستَهُ، ولا قبرًا مُشرِفًا إلَّا سوَّيتَهُ».
[أحمد وأبو داود والتِّرمذي].
وعن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنه، قال:
قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
«هلْ أنتَ مُريحِي مِن ذي الخَلَصَةِ، والكعبةِ اليمانيَّةِ والشَّاميَّةِ؟
فنفرتُ إليه في مائةٍ وخمسين من أحمسَ، فكسَرناه، وقتلنا مَن وجدنا عندَه، فأتيتُه فأخبرتُه، قال: فدعا لنا ولأحمسَ».
[البخاري ومسلم].
وعندما قال له رجلٌ: ما شاءَ اللهُ وشئتَ، قال له:
«أجعلتَني للهِ نِدًّا؟ بل قُلْ: ما شاءَ اللهُ وحدَه». [أحمد].
إنَّه ليس شيءٌ عند اللهِ أعظمَ ظلمًا وجُرمًا من أن يُنازَعَ في حقِّه، ويُجعَلَ شيءٌ من خلقِه وعبادِه نِدًّا له، وهو الذَّنبُ الَّذي لا يغفرُه الرَّحيمُ الرَّحمنُ.
وقد حذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمتَّه من مسالكِ الغلوِّ وذرائعِ الشِّركِ، والنَّهيِ عن اتخاذِ القبورِ أعيادًا، وتشييدِها وتعظيمِها، من مثلِ قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، الَّذي روته عائشةُ رضيَ اللهُ عنها:
«لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ».
قالت: «فلولا ذلك أُبرِزَ قبرُه، غيرَ أنَّه خُشيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا».
[البخاري ومسلم].
فإذا كان هذا حالُ قبورِ الأنبياءِ والرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهم خِيرةُ اللهِ في خلقِه، فما بالُنا بقبورِ مَن هم دونَهم؟!
وعلى الرغمِ من هذه التَّحذيراتِ، وخوفِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على أمَّتِه من الشِّركيَّاتِ، إلَّا أنَّ ما خشيَ منهُ عليهِ السَّلامُ وقع.
فهذه هي الأضرِحةُ والمزاراتُ في طولِ بلادِ المسلمينَ وعرضِها إلَّا ما رحمَ اللهُ.
شُيِّدَتْ عليها القبابُ، وبُنِيَتْ عليها المساجدُ، وحُوطَتْ بالمقصوراتِ المُفَخَّمةِ والمُعظَّمةِ.
تُشَدُّ لها الرِّحالُ، ويُحَجُّ إليها كما يُحَجُّ إلى بيتِ اللهِ، وتُزارُ كما يُزارُ مسجدُ رسولِ اللهِ، فأضحَتْ تُضاهي الحرمينِ الشَّريفينِ في التَّعظيمِ والقصدِ.
ويُعمَلُ عندَ عتباتِها ما يُؤسَفُ له ويُبكى عليه، وتَقشعرُّ منه أبدانُ الَّذين يُعظِّمونَ اللهَ ويعرِفونَ له حقَّه.
فيُدعَى أصحابُها مِن دونِ اللهِ، ويُطلَبُ منهم المَدَدُ والعَونُ والرِّزقُ والشِّفاءُ.
ويُطافُ بقبورِهم، ويُسجَدُ لها، ويُتمسَّحُ بعتباتِها وجدرانِها، وتُقدَّمُ لها النُّذورُ والذَّبائحُ والهدايا.
وقد شهدنا في الأيَّامِ القليلةِ الماضيةِ، في مناسبةٍ ما يُسمَّى بمولدِ البَدويِّ، في مقاطعَ حيَّةٍ متداوَلةٍ، ما يُؤكِّدُ كلَّ هذا وأكثرَ، واللهُ المستعانُ.
فيا لَخيبةِ مَن دعا الَّذي لا يسمعُ، ولو سمعَ ما استجابَ، وتركَ السَّميعَ القريبَ.
ويا لَفقرِ مَن طلبَ الرِّزقَ من الفقيرِ، وتركَ الغنيَّ الكريمَ.
ويا لَخذلانِ مَن طلبَ العَونَ من العاجزِ، وتركَ القديرَ الَّذي لا يُعجزُه شيءٌ.
ويا لَمرضِ مَن طلبَ الشِّفاءَ ممَّن لا يملِكُه لنفسِه، وتركَ الشَّافي الَّذي بيدِه العفوُ والعافيةُ.
ستذهبُ دَعواتُهم سُدًى، وأمانيُّهم هباءً، وسيدركُهم اليأسُ في حصولِ ما أمَلوا فيه وطَمِعوا.
هذا الَّذي سيكونُ ولا يكونُ غيرُه، لأنَّ الخبيرَ بكلِّ شيءٍ هو الَّذي أخبرَ به:
﴿إِن تَدعوهُم لا يَسمَعوا دُعاءَكُم وَلَو سَمِعوا مَا استَجابوا لَكُم وَيَومَ القِيامَةِ يَكفُرونَ بِشِركِكُم وَلا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبيرٍ﴾ [فاطر: ١٤].
أقولُ قولي هذا..
الثانية:
وبعدُ:
أيُّها الإخوةُ، ليستْ مثلُ هذه الأمورِ بالهيِّنةِ، أو أنَّها من أثرِ اختلافاتِ المذاهبِ، ويمكنُ تسويغُها وتبريرُها،
بل هي أعمالٌ منافيةٌ لأصلِ التوحيدِ والإيمانِ، قد تذهبُ بعملِ الإنسانِ كلِّه وتُبطِلُه، إذا تلبَّسَ بها بعلمٍ، أو دافعَ عنها ونافحَ.
وقد أنكرَها أهلُ العلمِ المُحقِّقونَ والحقيقيُّونَ، في كلِّ المذاهبِ دونَ استثناءٍ، الَّذين عافاهُم اللهُ من التَّعصُّبِ والجُمودِ،
لا المُزيَّفونَ، الَّذين يَكتمونَ الحقَّ، ويَنطقونَ بالباطلِ، ويُضلِّلونَ العوامَّ والدَّراويشَ.
ولا يُزعِجنَّكَ التَّحذيرُ منها، لاعتقادِك بأنَّك في مَنأًى عن هذا، فقد حذَّرَ اللهُ نبيَّه، ومِن قبلِه أنبياءَه جميعًا، عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، من الشِّركِ، وبأنَّه مُحبِطٌ للأعمالِ، فكيف بغيرِهم؟!
قال تعالى: ﴿وَلَقَد أوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ﴾ [الزمر: ٦٥].
وخافَهُ إمامُ الموحِّدينَ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ على نفسِه، كما قال اللهُ عنه:
﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّ اجعَل هذَا البَلَدَ آمِنًا وَاجنُبني وَبَنيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥].
ثمَّ اعلمْ أنَّ ما يكونُ على عتباتِ هذه الأضرِحةِ، لا يُناقِضُ التَّوحيدَ والإيمانَ فقط، بل يُناقِضُ العقولَ أيضًا.
فالمتعلِّقونَ بالقبورِ، عقولُهم مرتعٌ خصبٌ للخرافة، تُصدِّقُ كلَّ ما لا يُصدَّقُ،
يعتقدونَ أنَّ هؤلاءِ الموتى المتوسِّدينَ لهذه الأضرِحةِ، يَعلمونَ الغيبَ، ويَسمعونَ الدُّعاءَ، ولهم قُدرةٌ وشِركٌ مع اللهِ في التَّصرُّفِ والتَّحكُّمِ في الكونِ.
ويُصدِّقونَ أيضًا أنَّهم كانوا في حالِ حياتِهم يمشونَ على الماءِ، ويَطيرونَ في الهواءِ، ويَحجُّ أحدُهم وهو في بلدِه، ويأتيهِ رِزقُه كلَّ يومٍ دونَ عملٍ كما كانت مريمُ عليها السَّلامُ، ويُقابِلونَ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ يقظةً، ويَرَونَ الملائكةَ، إلى آخرِ هذه القصصِ الَّتي يَدَّعيها القومُ قديمًا وحديثًا.
ولا غَرابةَ في ذلك، فالخُرافةُ والوثنيَّةُ توأمانِ مُتلاصقانِ، وكلَّما كان الإنسانُ عن التَّوحيدِ أبعدَ، كان للخُرافةِ أقربَ.
فالتَّوحيدُ ليس هو مجرَّدَ نهيٍ عن البِدَعِ كما يظنُّ الكثيرونَ، بل هو نظامٌ شاملٌ، يَستقيمُ به العقلُ في تفكيرِه، والقلبُ في تعظيمِ اللهِ وتوقيرِه، والأخلاقُ في حُسنِها وسُموِّها، والنَّفسُ في عزَّتِها وكرامتِها، والجوارحُ في استسلامِها للهِ وإذعانِها.
فاحرِصوا عليهِ – يا رعاكمُ اللهُ – فهو أثمَنُ وأغلَى شيءٍ، وعضُّوا عليهِ بالنَّواجذِ، ولا تَسمَحوا بأنْ يَخدِشَه شيءٌ من الأعمالِ والمعتقداتِ، وليكُنْ حُبُّكُمْ له أَشَدَّ الحبِّ، وغَضَبُكُمْ له أَشَدَّ الغضبِ.
فهو الَّذي يَصَيرُ به العبدُ خالصًا لربِّه، فيتحقَّقُ بذلك ما أرادَه اللهُ وأحبَّه، وليكُنْ لسانُ حالِكَ ومقالِكَ دائمًا وأبدًا: ﴿قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ  لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٣].
رَبَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعدَ إذْ هَدَيْتَنا..
وأَعِذْنا من الشِّركِ والكُفرِ دقيقِه وجليلِه..
واجعلْ أعمالَنا خالصةً لوجهِكَ الكريمِ..
المرفقات
1761829947_على عتبات الأضرحة ( وورد).docx
1761829947_على عتبات الأضرحة ( PDF).pdf
 
                             
                             
             
             
             
             
                                 
                 
                     
                     
                         
                         
                     
                