غراس الشر

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ قَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، نبينا محمد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.

أما بعد : ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا 70 يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا 71 ﵞ. فيامن أردت صلاح العمل عليك بسداد القول. ولمّا سأل معاذ بن جبل رضي الله نبينا ﷺ عن العمل الذي يباعده من النار ويدخله الجنة أخبره النبي ﷺ وسلم برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ثم قال له بعد ذلك: ألا أخبرك بملاك ذلك كله ، فأخذ النبي ﷺ بلسانه وقال: كف عليك هذا.

نعم، إن أعظم امتحان للإنسان هو هذا اللسان، فبداية الإيمان استقامة اللسان قال ﷺ (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيمَ قلبه، ولا يستقيمُ قلبه حتى يستقيم لسانه). 

عباد الله : أرعوني أسماعكم فحديثي لكم اليوم عن آفة خطيرة منشرة بين كثير من الناس، آفة عقوبتها عاجلة، وغراسُها مرة، كم جنى الإنسان على نفسه وعلى أبنائه بسببها .. وكم تجرّع من العقوبات من جرائها..  من اتصف بها كان كمن يغرسُ الشرَّ في تربة حياته، وسيجني  ثمار تلك الغراسِ بعد أن تغدوَ أشجارًا طلعها كأنَّه رؤوسُ الشياطين. وهذا الأمر مصدره اللسان.

نعم إنها آفة الاستهزاء والسخرية والشماتة بالغير، ولو على سبيل المزاح.

وسبب هذه السخريةِ والاستهزاء هو مرض الجهل، ولذا لم يستعذ موسى عليه السلام من الاستهزاءِ الذي اتهمه به قومُه، وإنما استعاذ من المرض الذي يجعلُه يستحسن الاستهزاءَ ويمارسه! (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ).

فالجهل هو الذي يجعلُك تظنُ أنَّ السخريةَ ممارسةٌ جيِّدة توصلك إلى أهدافك، هو الذي يجعلك تظن أن الآخرين يحتاجون إلى استهزائك لا إلى رحمتك ونصحك، هو الذي يجعلك تظن أنك في الغد ستخلو مما أثار سخريتَك بالآخرين اليوم.

ومن أهم القواعد الاجتماعية التي ينبغي أن نحرص عليها ونربّي عليها من حولنا هي أن لا نسخر من أحد ولا نشمت بأحد» لا تجعل بؤسَ الآخرين متنفسًا لروحك المأزومة، إن لم تمتلك موهبةَ التربيت على أكتاف من حولك، فلا تمارسْ هوايةَ ركلِ مشاعرهم! وإن فقدت قدرةَ الاحتضان، فمن الأفضل أن تفقد معها قدرة الصفع!  ليس جميلاً والله أن تحويَ ذاكرةُ الغد أشياءَ فعَلْتَها في ماضيك، تستحيي من ذكرها لأبنائك وأحفادك.. اجعل ماضيك صفحاتِ مروءةٍ وشهامة، لتتحدثَ مع أبنائك في الغد بطلاقة، بل لتنام في الغد وأنت مرتاحُ الضمير.

دع الناسَ وإخفاقاتِهم، فلستَ المسؤولَ عن تقويمهم، وحبل الإنقاذ -إن كنت مُصرًّا على إنقاذهم- يُلَفُّ على الأيادي لا على الأعناق، أنت يا أُخيّ بسخريتك منهم تخنِقُهم، لا تُنقذُهم! فتعلّمْ المكانَ المناسبَ للفِّ حبل الإنقاذ، والجهةَ التي يوضع فيها طوقُ النجاة..

إذن لا تسخر، فهناك أشياءُ في الحياة تبعث على السعادة والضحك، غيرَ القلوبِ المحطَّمة، والنفوسِ الجريحة.. حتى ذلك التهكُّم الداخلي، الذي لا يشعرُ به أحد، استعذ بالله منه، فإنَّه من عمل الشيطان.. الوحيد الذي ينبغي أن تحتقره وتعالجه هو نفسُك! حينما تحتوي على خلايا تنْشَطُ في مثل هذه المواقف، وتنتشي لرؤية مخفق ما، أو عاجز ما، أو مبتلى ما!

فهذا شخص كان مبتلى بالتدخين سنواتٍ طوالا، ثمَّ إنَّه تركه دون الحاجة إلى إبر خاصة، أو برنامجَ علاجي، أو مراجعةِ مستشفى، ترك التدخين بالعزيمة وحدها، بعد معونة الله..

صار بعد ذلك ينظر لأولئك المبتلين بالتدخين على أنَّهم منهزمون نفسيًّا، لا يستطيعون مقاومة رغباتهم الطفولية، استمرَّ هذا الشعور في نفسه، بل كان يُفصح به لبعض أصدقائه المدخنين بين الحين والحين، وبعد مُضي سبعة أعوام على تركه للتدخين يعود صاحبنا للتدخين من جديد،!يعترف صاحبنا الصادق أن سببَ هذه العودةِ هو أنَّه تطاول على أناس ابْتُلُوا بالتدخين، بدل أن يحمد الله على العافية، ويمدَّ يده إليهم بالنصح! فكانت عقوبته أن عاد للبلاء. شخص آخر من الله عليه بصلاح أبناءه من غير حول ولا قوه ، نظر من نافذة بيته إلى أبناء جاره وهم يدخنون خلف المنزل ، فقال متهكمًا لزوجته: أن لا أشره عليهم وإنما على أبيهم اللي ما عرف يربيهم .. وما هي إلا مدة يسيرة وإذا بأبناء هذا الرجل ينحرفون، وتتردى أحوالهم وأصبحوا مصدر من مصادر الشر في الحي كله، أدرك الاب ذلك بعد مدة وتندم وكان يقول :أعرف من أين أوتيت من الكلمة التي قلتها عن جاري وأبناءه

لماذا لا نقول: الحمد الله الذي عافانا مما ابتُليَ به غيرُنا؟ لماذا نصرُّ على تحويل كرامة الله لنا، ولطفه بنا إلى عنديَّات امتلكناها بمواهبنا الفريدة، وخصائصنا المميَّزة؟ يقول ابن القيم _رحمه الله_: «من ضحك من الناس ضُحك منه، ومن عيَّر أخاه بعمل ابتلي به ولا بدَّ».

والسخرية بالآخرين دَين، احرص على عدم اقتراضه، حتى لا تسدده في يوم من الأيام من صحَّتك، أو هدوء حالك، أو تمام خلقتك، فتجد نفسك وقد صرت أنت الأضحوكة، أو الأحدوثة! وقد فقه هذا المعنى الأئمة الأوائل، فمما ينقل عن ابن عمر _رضي الله عنه_ أنَّه قال: «لو عيَّرتُ امرأة حُبلى بحملها، لخشيت أن أحمل!». وهذا ابن مسعود _رضي الله عنه_ يقول: «لو سخرت من كلبٍ، لخشيت أن أكون كلبًا!». أما ابن سيرين فيعترف _رحمه الله_ قائلاً: «عيَّرت رجلا بالإفلاس فأفلست!» ..

وهذه رهافة بالغة، تدل على حذر شديد من هذه الآفة، وأن ابتلاء المرء بالشيء الذي سخر مِن تلبُّسِ صاحبِه به، شيء مشاهد ملاحظ منذ أزمان قديمة، فبات أصحابُ النفوس المرهفة، والإيمان الحيِّ، يحذَرونه، ويحذِّرون منه.. فاحفظ منطقك، تُحفظ من البلاء بإذن الله..

لماذا تضرُ أبناءك الذين لم يأتوا إلى الحياة بعد؟   فهذا شخصٌ عيَّر آخر بتشوُّه يسير في خلقته، فلم تمض السنة أو السنتان إلا وقد جاءه مولود بنفس ذلك التشوُّه! وآخر كان يسخر من بعض أقاربه من الصم وينتدر بهم فإذا هو بعد ذلك لا يأتيه مولود إلا من فئة الصم البكم.

أخي المبارك هل تعتقد أن ذلك المبتلى اختار بلاءه بنفسه؟ هل تظن أن هناك ورقة استبانة جاءته في يوم من الأيام، وكانت تحتوي على عنصر يقول: هل تريد أن تبتلى بالعمى؟ أو التأتأة؟ أو الصرع؟ فأجاب بنعم، وأشار على إحدى هذه البلاءات بالموافقة! بما أن هذه الاستبانة لم تقدَّم لأصحاب البلاء الذين يُسخر منهم، فلماذا إذن السخرية؟

كارثة عندما تصير حياتك حقلا مليئًا بالعقوبات، فتغدو محاطًا بتلعثمات، وتأتآت، وإخفاقات، وتشوُّهات كنت في غنى عنها، لولا هذا اللسان وهذه الشماته.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم  (يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم )

الخطبة الثانية

عباد الله يقول إبراهيم النخعي ( إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى ) بين ركام الساخرين عوّد نفسك أن لا تسخر من أحد مهما فعل: وجاهد نفسك أن تحمدَ الله وتسألَه العافية، وتدعو لأخيك بالهداية، وتبذل الواجب في النصح والإصلاح...ما الذي يدريك؟ لعلَّ ذلك الأعرج يدخل بعرجته الجنَّة، وأنت تدلف إلى أبواب جهنَّم بساقيك القويَّتين -والعياذ بالله. ولعلَّ ذلك الأعور، تكون عينه العوراءُ مفتاحَ قصر شامخ أعدَّه الله له في الفردوس، وتكون عيناك الصحيحتان السبب في أن تُحرم رؤيةَ الله سبحانه! ولعلَّ صمتَ صاحبك الأبكم هو سبب وصوله إلى عرصات يوم القيامة خفيفًا من الذنوب، وأنَّ طلاقةَ لسانك هي التي أنقضَتْ ظهرك، وأثقلت وزرك! لا تسخر من شخص، فعسى أن يكون خيرًا منك.. وقد قال بعض السلف: «لولا المصائب لوردنا القيامة مفاليس»! أتعيِّر شخصًا بالشيء الذي أراد الله أن يرفعه به؟

يذكر ابن تيمية أن من حِكم قضاء الله على سبعين صحابيًّا بالشهادة في غزوة أحد، أنَّه سبحانه قد يكون أعدَّ لهم منزلةً رفيعة في الجنَّة لن يبلغوها بأعمالهم، فقدَّر لهم الشهادة ليبلغوها..

والمنازلُ العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال النبي ﷺ لما سُئل: أي الناس أشد بلاء فقال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة».

وقس على ذلك جميع البلاءات! وفي حديث المرأة التي كانت تُصرع خير مثال، فقد خيّرها النبي ﷺ بين أن يدعو لها بالشفاء فتُشفى، أو تصبر ولها الجنَّة! إذن كثير مما نظنُّه بلاء، يحمل في طيَّاته عبقَ الجنَّة، وعبيرَها الشذيَّ.. فعلام السخريةُ إذن؟ ولماذا التهكُّم والشماتة؟

 

لا تغرس الشر في فصول حياتك، أنت أحوجُ إلى رحمة الله ولطفه منك إلى انتقامه وعقوبته، أمسك عليك لسانك، ودع الخلق لخالقهم، وإذا رأيت مبتلًى فقل في (نفسك): «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلا».. قلها وأنت تستشعر منَّة الله عليك، وأنَّ ما أنت فيه من عافية، ليس بكدِّك ولا تعبك، وإنَّما تفضلٌ منه سبحانه..  انظر برحمة إلى أولئك المبتلَينَ، وخفف عنهم بكلماتك الرقيقة، وبمشاعرك الجميلة..  لا تشعرهم أنَّهم في بلاء.. بل أشعرهم أنهم في عافية تحفُّهم من كل جانب؛ فالبلاء مهما استطال وامتدَّ ليس بشيء أمام زحام النعم التي يعيش فيها العبد.

 

المرفقات

1762974440_��غراس الشر 1� (1).docx

1762974440_��غراس الشر 1�.pdf

المشاهدات 635 | التعليقات 0