فقد العلماء (خطبة مشكولة)
abu dana
الحمدُ للهِ عالِمِ الخَفِيَّاتِ، وغافِرِ الخَطِيَّاتِ، أَحاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَحِلْمًا، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْمًا، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾. أتْقَنَ ما صَنَعَ وَأَحْكَمَهُ، وَأَحْصَى كُلَّ شَيءٍ وَعَلِمَهُ، وَخَلَقَ الإِنسَانَ وَعَلَّمَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَ العِلْمِ وَعَظَّمَهُ، وَخَصَّ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ كَرَّمَهُ. وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: يامن لربه يستسلم: اتق الله تُكفى وتَسْلم؛ [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].
من يتَّقِ الله يجعل عُسرَه يُسرًا*** ويُعظِمِ اللهُ بالتقوَى له أجرًا
أيها المسلمون: صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى جَنَازَةٍ، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنَ الْمَوَالِي، فَلَمَّا انْتَهَى مِنَ الصَّلَاةِ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: «خَلِّ عَنْهَا يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ!» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا».
وَلَمَّا مَاتَ زَيْدٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَلَى قَبْرِهِ فَقَالَ: «يَا هَؤُلَاءِ! مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ ذَهَابُ الْعِلْمِ فَهَكَذَا ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ ذَهَبَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ».
هُمْ سِرَاجُ الْعِبَادِ، وَمَنَارُ الْبِلَادِ، وَقِوَامُ الْأُمَّةِ، وَيَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ، هُمْ غَيْظُ الشَّيْطَانِ، بِهِمْ تَحْيَا قُلُوبُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَتَمُوتُ قُلُوبُ أَهْلِ الزَّيْغِ، مَثَلُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ؛ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، إِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ تَحَيَّرُوا، وَإِذَا أَسْفَرَ عَنْهَا الظَّلَامُ أَبْصَرُوا. إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
هُمُ الْمَصَابِيحُ الَّذِينَ هُمُ *** كَأَنَّهُمُ مِنْ نُجُومٍ حَيَّةٍ صُنِعُوا
أَخْلَاقُهُمُ عُقُولُهُمُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ *** أَقْبَلْتَ تَنْظُرْ فِي أَلْبَابِهِمْ سَطَعُوا
عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ فَقَدَتْ بِلَادُنَا قَبْلَ يَوْمَيْنِ عَالِمًا جَلِيلًا، وَهُوَ سَمَاحَةُ الْوَالِدِ مُفْتِي عَامِّ الْمَمْلَكَةِ، الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ آلُ الشَّيْخِ، وَرَئِيسُ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ؛ فَرَحِمَ اللَّهُ الشَّيْخَ عَبْدَ الْعَزِيزِ، وَغَفَرَ لَهُ، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّاتِهِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ فَقْدَ الْعَالِمِ لَيْسَ فَقْدًا لِشَخْصِهِ وَلَا لِصُورَتِهِ، وَلَيْسَ فَقْدًا لِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَلَكِنَّهُ فَقْدٌ لِجُزْءٍ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْعِلْمُ.
المَوْتُ كَأْسٌ كُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ *** وَالْعِلْمُ إِرْثٌ لِمَنْ أَبْقَاهُ فِي النَّاسِ
قَدْ مَاتَ فَذٌّ جَمِيعُ الْخَلْقِ تَعْرِفُهُ *** أَعْطَى مِنَ الْجِدِّ جُهْدًا دُونَ مِقْيَاسِ
إِنْ مَاتَ شَيْخٌ فَنَحْنُ الْيَوْمَ نَفْقِدُهُ *** لَكِنْ خَيْرًا عَظِيمًا لَهُ يَبْقَى كَنِبْرَاسِ
وَمَتَى فَقَدَتِ الْأُمَّةُ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، فَقَدْ فَقَدَتْ شَيْئًا عَظِيمًا، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَوْتَ الْعُلَمَاءِ خُطْبٌ جَلَلٌ، وَرَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَلَاءٌ كَبِيرٌ؛ إِذِ الْأَشْخَاصُ كُلَّمَا كَانَ دَوْرُهُمْ عَظِيمًا، وَأَثَرُهُمْ كَبِيرًا؛ كَانَتِ الْمُصِيبَةُ بِفَقْدِهِمْ أَشَدَّ.
وَمَا كَانَ قَيْسٌ هَلْكُهُ هَلْكُ وَاحِدٍ *** وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
لَكِنَّهَا سُنَّةُ اللَّهِ الْجَارِيَةُ وَالْمَاضِيَةُ فِي عِبَادِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾.
الْمَوْتُ لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا مَفَرَّ؛ لَكِنْ فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ مَوْتِ إِنْسَانٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ لَا يَشْعُرُ بِفَقْدِهِ إِلَّا أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ فَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ، وَبَيْنَ مَوْتِ عَلَمٍ مِنْ أَعْلَامِ الْأُمَّةِ، وَحَبْرٍ مِنْ أَحْبَارِهَا، يَسْتَفِيدُ النَّاسُ مِنْ عِلْمِهِ وَفَتَاوَاهُ، وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيَتَعَامَلُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: «النَّاسُ أَحْوَجُ إِلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَالْعِلْمُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ».
وَلِذَا كَانَ الإِمَامُ أَحمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَثِيرَ الدُّعَاءِ لِلشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللهَ-، فَسَأَلَهُ ابنُهُ عَبدُ اللهِ: يَا أَبتِ، أَيُّ شَيءٍ كَانَ الشَّافِعِيُّ، فَإنِّي أَسْمَعَكَ تُكثِرُ الدُّعَاءَ لَهُ؟ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللهُ: "يَا بُنَيَّ، كَانَ الشَّافِعِيُّ كَالشَّمسِ للدُّنيَا، وَكَالعَافِيةِ لِلنَّاسِ، فَانظُرْ هَلْ لِهَذَينِ مِنْ خَلَفٍ، أَوْ مِنهُمَا عِوَضٍ".
الأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا *** مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا *** وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
أيها المُسلِمُونَ: إِذَا مَاتَ العَالِمُ فَشَا الجَهلُ وَانْدَرَسَ العِلْمُ، وَتَحَيَّرَ النّاسُ وَظَهَرَ الشَّرُّ والنِّفاقُ، يَقُولُ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: "خَرَابُ الأَرضِ بِمَوتِ عُلَمائِهَا وَفُقَهَائِهَا وَأَهلِ الخَيرِ فِيهَا"
ويروى عن عُمرُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أنه قال: "مَوتُ أَلفِ عَابِدٍ أَهْوَنُ مِنْ مَوتِ عَالِمٍ بَصِيرٍ بِحَلَالِ اللهِ وَحَرَامِهِ".
قَالَ ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَوَجهُ قَولِ عُمرَ: أَنَّ هَذَا العَالِمَ يَهدِمُ عَلَى إِبْليسَ كُلَّ مَا يَبنِيهِ بِعلْمِهِ وَإِرشَادِهِ، وَأَمَّا العَابِدُ؛ فَنَفْعُهُ مَقصُورٌ عَلَى نَفسِهِ".
وَقَالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ: كَانُوا يَقُولُونَ: «مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ».
وَقِيلَ لِسَعِيدٍ بنِ جُبَيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَا عَلَامةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟ قَالَ: «إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ».
وَتَصدِيقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
قَالَ ابنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذهَابَ العِلمِ يَكُونُ بِذهَابِ العُلَمَاءِ".
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَأْسَونَ أَشَدَّ الأَسَى لِفَقدِ عَالِمٍ مِنَ العُلَمَاءِ:
قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتيِانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "إنِّي أُخبَرُ بِمَوتِ الرَّجُلِ مِنْ أَهلِ السُّنَّةِ فَكَأَنِّي أَفْقِدُ بَعضَ أَعضَائِي".
وَقَالَ يَحيَى بنُ جَعْفَرٍ: "لَو قَدِرتُ أَن أَزِيدَ فِي عُمُرِ مُحَمَّدٍ بنِ إِسمَاعِيلَ - أَيْ: البُخَارِيُّ - مِنْ عُمُرِي لَفَعَلتُ، فَإِنَّ مَوتِي يَكُونُ مَوتَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَمَوتَهُ ذَهَابُ العِلمِ".
فالعلماءُ وجودُهم رحمةٌ وأَمَنَةٌ ونورٌ وهداية، وذهابُهم مصيبةٌ وثُلمةٌ ورزيّة، قالَ تعالى : [ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]؛ قالَ ابنُ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: "نقصانُ الأرضِ بموتِ العلماء، فخرابُها بموتِ فقهائِها وعلمائِها وأهلِ الخيرِ منها".
لعَمْرُكَ ما الرَّزِيَّةُ فَقْدَ مالٍ *** ولا شاةٌ تَمُوتُ ولا بَعِيرُ
ولكنّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ شَهْمٍ *** يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ
فَحُقَّ لَهُم تِلْكَ المَكَانَةُ؛ فَهُم وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؛ وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». بَلْ حَسْبُهُمْ ثَنَاءُ اللَّهِ لَهُمْ فِي مُحْكَمِ الآيَاتِ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾؛ وَلِذَا كَانَ حُبُّهُمْ وَتَوْقِيرُهُمْ وَإِجْلَالُهُمْ دِينًا وَطَاعَةً وَقُرْبَةً، قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: «مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ اللَّهَ بِاحْتِرَامِ العُلَمَاءِ الهُدَاةِ».
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: «هُمْ فِي الأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ؛ بِهِمْ يَهْتَدِي الحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَطَاعَتُهُمْ أَفْرَضُ مِنْ طَاعَةِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ بِنَصِّ الكِتَابِ».
وَهُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ فِي أُمَمِهِمْ، وَأُمَنَاؤُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ؛ شُهَدَاءُ بِالْحَقِّ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾.
وَهُمْ أَهْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾. وَهُمْ الوَسِيلَةُ فِي تَبْيِينِ الأَحْكَامِ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمُ العُلَمَاءُ الَّذِينَ يُسْتَعَانُ بِفَهْمِهِمْ عَلَى فَهْمِ مَرَادِ اللَّهِ وَمَرَادِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ﴾؛ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ فِي العِلْمِ وَالفِقْهِ وَالفَهْمِ.
قَدْ مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَتْ فَضَائِلُهُم وَعَاشَ قَومٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَموَاتُ.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ وَفِيهَا المُصْلِحُونَ، كَمَا قَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُلَمَائِنَا الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، وَاجْزِهِمْ عَنَّا خَيْرَ مَا جَزَيْتَ عَالِمًا عَنْ أُمَّتِهِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الحمدُ لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلَم، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأكرَم، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه رموزِ المعارِفِ والقِيَم، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد:
أَمَّا بَعْدُ:
فَمِمَّا يُعَزِّي نُفُوسَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي فَقْدِ عُلَمَائِهِمْ؛ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدْ حَفِظَ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ دِينَهَا، وَحَفِظَ لَهَا كِتَابَهَا، فَالفَضْلُ الإِلَهِيُّ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى بَعْضِ العِبَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا مَحْصُورًا فِي زَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ، وَلَا مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، فَلَا يَخْلُو زَمَنٌ وَعَصْرٌ وَمَكَانٌ مِنْ عُلَمَاءَ يُقِيمُهُمْ فِي كُلِّ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، عُلَمَاءَ مُصْلِحِينَ، يَدْعُونَ إِلَى الهُدَى، وَيَذُبُّونَ عَنِ الحِمَى، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى، فَهذِهِ الأُمَّةُ أُمَّةٌ وَلُودٌ، وَالخَيرُ بَاقٍ فِيهَا إِلَى يَومِ القِيَامةِ، أُمَّةُ الغَيثِ لا يُدرَى خَيرُهُ أَوَّلُهُ أَم آخِرُهُ، وَإِذَا مَاتَ مِنَّا سَيّدٌ قَامَ سيّدٌ، وَإِذَا ذَهَبَ عَالمٌ قَيَّضَ اللهُ عُلَمَاءَ، فَالدِّينُ وَحُمَاتُهُ بَاقُونَ مَا بَقِيَتْ الأَرضُ وَالسَّمَاءُ.
وَمَعَ شِدَّةِ حُزنِنَا- أَيُّهَا المسلمون- وَتَأَلُّمِنَا لِمَوتِ عَالِمٍ مِنَ العُلَمَاءِ؛ إِلَّا أنَّهُ يَلزَمُنَا أَنْ نَعلَمَ أَنَّهُ لَيسَ مَعنَى مَوتِ وَاحِدٍ مِنَ العُلَمَاءِ، ضَيَاعَ الأُمَّةِ، وَتَوَقُّفِ مَسِيرَةِ الدَّعوَةِ، فَفِيمَا بَقِيَ مِنْ أَهلِ العِلمِ خَيرٌ كَثيرٌ، وَالأُمَّةُ زَاخِرَةٌ بِالكَفَاءَاتِ العِلمِيَّةِ، مَلِيئَةٌ بِالرِّجَالِ المُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَحمِلُونَ مِشْعَلَ الهِدَايةِ - وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
قالَ ابنُ القيّمِ -رحمَه الله-: "لمّا كانَ صلاحُ الوجودِ بالعلماء، ولولاهم كانَ النّاسُ كالبهائم، بل أسوأُ حالًا؛ كانَ موتُ العالمِ مصيبةً لا يَجبرُها إلا خَلَفُ غيرِه له"، فالحمدُ للهِ فالخيرُ في هذه الأمّةِ لا يَنفَد، ومَعينُه لا يَنْضَب، إذا ماتَ منّا سيّدٌ قامَ سيّدٌ، وإذا ذهبَ عالمٌ قيّضَ اللهُ علماء، فالدِّينُ وحُماتُه باقونَ ما بَقِيَت الأرضُ والسّماء؛ [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ].
فَلَا يَنبغِي أَنْ يَخُورَ العَزمُ، وَأَنْ يَضعُفَ العَطَاءُ، فَرَايَةُ العِلمِ وَالدَّعوَةِ مَحفُوظَةٌ -بِإِذنِ اللهِ- مَا دَامَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَحفُوظَينِ، وَلَا يَخْلُو زَمَانٌ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ.
فَلَقَدْ أَخَبَرَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» رواه البخاري ومسلم.
تستغفِرُ الحِيتانُ في أبحارِها*** للسالِكين مدارِجَ العُلماءِ
فهم النجومُ مقامُهُم كبِدُ السماء *** وحُظوظُهم في الليلة القَمرَاءِ
فمن ابتغَى من غيرِ هذا نهجَه *** فلقد أضلَّ وضلَّ في البَيْدَاءِ
اللَّهُمَّ اجْزِ عَنَّا خَيْرًا كُلَّ عَالِمٍ وَمُعَلِّمٍ لَنَا خَيْرًا،
اللَّهُمَّ ارْحَمْ عُلَمَاءَنَا وَمَشَايِخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً،
وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ، وَاجْزِهِمْ خَيْرَ مَا قَدَّمُوا لِلْأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ خَيْرَ الْجَزَاءِ.
عباد الله: ومن أرادَ انشراحَ الصدر، وغُفرانَ الذنبِ، وتفريجَ الكرب، وذهابَ الهمِّ والغمِّ فليُكثِر من الصلاة والسلام على النبي الكريم، والمُصطفى المُجتبَى. فتقرَّبُوا لربِّكم بالصلاة والسلام عليه، امتِثالاً لأمر الله؛ ( إن الله وملائكته يصلون...).
فصلِّ يا ربِّ على المُبارَكِ *** محمدٍ وآلهِ وبارِكِ
وصحبِه والتابعين النُّبَلا *** ومن قفَا آثارَهم ووصَلا
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلُومين في فلسطين، قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان، والتشريد والحِصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِّل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤُهم، ويُتِّم أطفالُهم، وهُدِّمَت مساكنُهم ومرافقُهم. اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِي المؤمنين، انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألّف بين قلوبهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك. يارب العالمين.
اللهمَّ ارحمْ علماءَنا ومَشايخَنا رَحمةً وَاسعةً، واجعل أَنوارَهم عَلى الأمَّةِ سَاطعةً، واجعلْ ما تركوهُ من العُلومِ نَافعةً، اللهمَّ مَن أَحييتَهُ مِنهم فبَاركْ في عُمُرِه وعِلمِهِ وَسَعيه، ومَن مَاتَ مِنهم فتَغمدْهُ بالرحمةِ والغُفرانِ، وأَعلِ مَقامَه في الجِنانِ..
اللهمَّ ارزقنا إتِّبَاعَ سُنَّةَ نَبِيِّنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا, اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ، أَوْ نَضِلَّ، أَوْ نَظْلِمَ، أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ الـْمُسْلِمِيْنَ وَالْـمُسْلِمَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ.
اللهم واحفظْ علينا دينَنا، وأعراضَنا وبلادَنا. اللهم انصرْ جنودَنا المرابطينَ على حدودِنَا وجميعَ رِجالِ أَمنِنَا. اللهم احفظ وليِّ أمرِنا خادم الحرمين الشريفين ووليِ عهدِه، وزدْهُم عزًا وبذلاً في نصرةِ الإسلامِ والمسلمينَ. اللهم ارحم والدينا كما ربونا صغارا.. سبحان ربك رب العزة...
