"فَقْدُ العُلَماءِ"         4/ 4 /1447هـ

د عبدالعزيز التويجري
1447/04/03 - 2025/09/25 17:55PM

الخطبةُ الأُولى : "فَقْدُ العُلَماءِ"            4/ 4 /1447هـ

الحمدُ للهِ الذي أَكمَلَ لنا الدِّينَ، وجعلَنا مُسلِمين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه وزوجاتِه، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.أمَّا بعدُ فاتقوا اللهَ أيُّها المؤمنون حقَّ التقوى.﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾

العلماءُ زينةُ الحياةِ الدنيا وبهجتُها، العلماءُ نبراسُ الخيرِ ومشعلُ ضياءٍ للبشريةِ، العلماءُ نجومٌ يُهتدى بهم، للعلماءِ مكانةٌ في الدينِ لا تُنكَرُ، وفضلٌ كبير لا يكادُ يُحصرُ؛ هم شهداءُ اللهِ في أرضهِ، والأمناءُ على وحيهِ، وأهلُ خشيتهِ، والأنوارُ في الظلماتِ، والمنائرُ في الشبهاتِ، هم وارثو علمِ الأنبياءِ، "لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللَّهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ".

هــم زينةُ الدنــيا وبهجتُها *** وهم لها عمدٌ ممدودةِ الطلبِ

تحيا بهم كلُّ أرضٍ ينزلون بها *** كأنهم لبقاعِ الارضِ أمطــارُ

قالَ العلامةُ ابنُ القيمِ رحمه اللهُ تعالى: "العلماءُ هم في الأرضِ بمنزلةِ النجومِ في السماءِ؛ بهم يهتدي الحيرانُ في الظلماءِ، وحاجةُ الناسِ إليهم أعظمُ من حاجتِهم إلى الطعامِ والشرابِ".

قفدُ حملةِ هذا النورِ رزيةٌ في الأمةِ وثلمتٌ في الإسلامِ.

لعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ   **   وَلَا شاةٌ تَمُوتُ وَلا بَعيرُ

ولكِنَّ الرَّزِيَّة فَقْدُ شخصٍ   **   يَمُوتُ بِمَوْتِهِ بشَرٌ كَثِيرُ

وأعظمُ فَقْدٍ فَقَدَتْهُ البَشَرِيَّةُ، يومَ فَقَدَتْ مُبَلِّغَ هذا النُّورِ في الآفاقِ، ومُخْرِجَ النَّاسِ من الغَوايةِ إلى الهِدايةِ .. لما ماتَ عليه الصلاةُ والسلامُ وقفت ابنتُه فَاطِمَةُ على قبرهِ تنعاهُ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ.

أَطالَت وُقوفاً تَذرِفُ العَينُ جُهدَها *** عَلى طَلَلِ القَبرِ الَذي فيهِ أَحمَدُ

تَهيلُ عَلَيهِ التُربَ أَيدٍ وَأَعيُنٌ *** عَلَيهِ وَقَد غارَت بِذَلِكَ أَسعُدُ

لَقَد غَيَّبوا حِلماً وَعِلماً وَرَحمَةً *** عَشِيَّةَ عَلَّوهُ الثَرى لا يُوَسَّدُ

فَقْدُ حملةِ الشريعةِ رزيةٌ في الأمةِ. ذكرَ الذهبيُّ في السيرِ قالَ: لما ماتَ زيدُ بنُ ثابتٍ t فقيهُ الصحابةِ وكاتبُ الوحيِ، قامَ أبو هريرةَ t: فقالَ: لقد ماتَ اليومَ حبرُ الأمةِ، ولعلَ اللهَ أن يجعلَ في ابنِ عباسٍ منه خلفاً، فجلسَ ابنُ عباسٍ في ظلٍ، فقال: هكذا ذهابُ العلماءِ، دفنَ اليومَ علمٌ كثيرٌ.

وأعظمُ من يفقدُهم أحبابُهم، ومن يُجلون العلمَ ويعرفون أثرهَ في الأمة، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ: كُنَّا عِنْدَ محَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ؛ فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِيهِ نَعْيُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن؛ فَنَكَّسَ رَأْسَهُ، ثمَّ رَفَعَ وَاسْتَرْجَعَ، وَجَعَلَ رَحمَهُ اللهُ: تَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْه، ثمَّ أَنْشَأَ يَقُول:   إِنْ تَبْقَ تُفْجَعْ بِالأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ *** وَفَنَاءُ نَفْسِكَ لاَ أَبَاً لَكَ أَفْجَعُ

بموتِ العلماءِ ينقصُ العلمُ ويفشوا الجهلُ "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفقٌ عليه.

مَثَلُ الْعلمَاءِ مَثَلُ النُّجُومِ الَّتِي يُقْتَدى بهَا، والأعلامُ الَّتِي يهتدى بهَا، إِذا تغيبت عَنْهُم تحيروا وَإِذا تركوها ضلوا.

وإذا ما خلت بلادٌ من العَلَمِ *** فذاك لها نذيرُ شقــــــــــاءِ!

إننا اليومَ قد فقدنا إمامـــــــًا *** كان بدرًا في الليلةِ الظلماءِ

رحمَ اللهُ عالمًا قد فقدنـــــــــاهُ *** على قلةٍ من العلمـــــــــــــــــاءِ

ومصداقُ ذلك في صحيح البخاري "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً".

ولا غروَ أن يخيمَ الحزنُ على هذه البلادِ بموتِ مفتي هذه البلادِ المباركة ، وفقدِ عزيزٍ له من اسمهِ القدحُ المعلى، عزيزُ باسمه ، عزيزٌ بعلمه ، عزيز بقدره وبذله .. نهل من علمه القاصي والداني ، وارتشد من فتواه العالم والجاهل ، يهتم لأحوال ِالناسِ، منارةٌ من مناراتِ العلمِ والفقهِ والهدى، والتدريسِ والافتاء، والدعوةِ والاحتساب.

تذكُرُ وَعْظَهُ جَنَباتُ الحرمين ، وتَتَرَدَّدُ فتاواهُ نُورُ إذاعةِ القرآن، وتُبَثُّ دُروسُهُ في كُلِّ مكان، وتُحَلُّ على فتواه قَضَايَا القُرَى والبُلْدَان. حج عن اعلام الإسلام وهذا وفاءٌ لا يبلغه إلا كبار النفوس وكرام الرجال.

تلك المكارمُ لا قعبانَ من لبنٍ *** وهكذا السيفُ لا سيفُ ابنُ ذي يزَنِ

هو العَلَمُ الْوَرِعُ الْتَّقِيُّ أَخَو النَّدَى *** علمُ الهدى علاَّمةُ العلماءِ

فبمثلِ فقدهِ جرحٌ لا يندملُ، وثُلمةُ لا تنجبرُ، فالعلماءُ أعلامُ الإسلامِ. العلماءُ في الأرضِ كالنجومِ في السماءِ.. العلماءُ حُراسُ الديانةِ الأمناءِ.

العلماءُ عقولُ الأمةِ، والأمةُ التي لا تحترمُ عقولَها فهي غيرُ جديرةٍ بالبقاء.

 العلماءُ حملةُ الشريعةِ وورثةُ الأنبياءِ، والمؤتمنون على الرسالةِ، حبهُم والذبُ عنهم ديانةٌ، ما خلت ساحةٌ من أهلِ العلمِ إلا خلفَهم جهالٌ يقودون الناسَ لمهاوي الردى، فيعمُ الضلالُ، ويتبعُه الوبالُ والنكالُ، وتطلُ عندها سحبُ الفتنِ تمطرُ المحنَ.

والطاعنون في علماءِ الشريعةِ هم أهلُ الأهواءِ والبدعِ والنفاق؛ حملةُ الأقلامِ المسمومة، والأفكارِ الكاسدة، التي تورثُ الضغائنَ، وتوقظُ الفتنَ.

قالَ يحيى بنُ معينٍ رحمَهُ اللهُ: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ فِي حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الْإِسْلَامِ"..   إذا أميتت عدالةُ أهلُ العلمِ والدعوةِ ضاعت الأمةُ.

يُقضى على المرءِ في أيامِ محنتِهِ *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ

ومن الوقيعةِ ما قتلِ، فنعوذُ باللهِ من الخطلِ.

وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى. أَمَّا بَعْدُ

رأسُ الفضائلِ اصطناعُ الأفاضلِ، ورأسُ الرذائلِ اصطناعُ الأراذلِ، ومن أعظمِ الفجائعِ إضاعةُ الصنائعِ.

تُصْنعُ عقولُ الأمةِ باصطناعِ عقولِ الأفذاذِ، من نوابغِ الأفرادِ، المجتمعُ ينتظرُ مشاعلَ من فتيانٍ يخلفون الأكابرَ في العلمِ والدعوة والاحتساب.

وإذا تزاحمت الأقدامُ تشييعًا لعالمٍ حُباً لعلمِه، فإن الأحرى أن تتزاحمَ الركبُ عند حلقِ الذكرِ ليكونوا مثلَه، ويخلفوا علمَه.

لا يتكبرُ أحدٌ عن العلمِ أن يتعلمَه، أو يظنَ أن قطارَ العمرِ قد فاتَهُ. قالَ الإمامُ البخاريُّ رحمَهُ اللهُ: "وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ r فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ".

فيا حسرةَ الأعمارِ تُضَيَّعُ نفائسُ العمرِ في متابعةِ فراغاتِ الآخرين، ومشاهدةِ سقطاتِ التافهين، وتطبيقاتِ توجيه المخببين.

 تُضَيَّعُ العقولُ وتُهدرُ خِزانةُ فكرِ الأمةٍ حين يُلَبسُ جلودُ الضأنِ على قلوبِ الذئابِ، ويُبرَزُ خواتُ العلمِ على أن عَمَلُهم هو نبراسُ يحُتذى، وأقوالَهم دررُ تضئُ الفضاءَ. 

غبنٌ وخسارةُ أن يتعلمَ الإنسانُ كلَّ شيءٍ إلا ما يهدي طريقَهُ، يعلمُ كلَّ ما يجري حولَه، ويجهلُ ما يبصرُ دربَهُ. 

الأمةُ لا تتحسرُ ولا تحزنُ إذا ذهبَ رعاعُها وفقدَت عامتَها.. إنما يصيبُها الثلمُ والنقصُ حين تَفْقِدُ عُلمائَها وعقلائَها، ويذهبُ صلحائُها وعبادُها، ويختفي أولى الرأي والحجا من حملةِ النورِ والبصيرةِ.

 

إذا ماتَ ذو علمٍ وتقــــــــوى *** فَقَدْ ثُلِمَتْ مِنَ الإِسْلاَمِ ثُلْمَه

وموتُ الْحَاكِمِ العَدْلِ الْمُوَلَّى *** بحكمِ الأرضِ مَنْقَصَةٌ وَنِقْمَـــــــه

وموتُ فتًى كثيرِ الجودِ مَحْلٌ *** فَإِن بَقَاءَهُ خصب وَنِعْمَـــــــــه

وموتُ الْعَابِدِ القَوَّامِ ليـــــلاً *** يناجِي ربَّه في كُل ظُلْمَــــــــه

وموتُ الْفَارِسِ الضرْغَامِ هَدْم *** فكم شَهِدْتْ له بالنَّصْرِ عَزْمَه

فَحَسْبُكَ خمسةُ يُبكَى عليهم *** وبافي الناسِ تَخْفِيْف ورحمــــــه!

وباقي الناسِ هم همجٌ رعاعٌ *** وفي إيجادهم لله حكمـــــه

اللَّهُمَّ إنّا نسألُكَ حُسنَ الخِتامِ، والوفاةَ على الإيمانِ، وأن تغفِرَ ذنوبَنا، وتُيسِّرَ أُمورَنا، وتَقضيَ ديونَنا، وتَشفيَ مَرضانا، وتَرحمَ مَن ماتَ من أحبابِنا وعُلمائِنا.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.

..اللهم آمنا في دورنا و أصلح ولاة امورنا

 

المرفقات

1758812101_فَقْدُ العُلَماءِ.docx

1758812102_فَقْدُ العُلَماءِ.pdf

المشاهدات 1120 | التعليقات 0