في اختلاف فصول السنة فضائل وذكرى

في اختلاف فصول السنة فضائل وذكرى.  1447/5/30هـ

أيها الإخوة: لما خلق الله -تَعَالَى- السماوات والأرض أودع فيها من الخيرات والتنوع البيئي والتغير المناخي ما يُبهر العقول، ويذكي في الموفقِ التأملَ في عظمةَ الخالق وملكوته وبديع صنعه.. ودقيقَ لطفه وحكمته.. ومن بديع حكمته -تَعَالَى- تغير فصول السنة وهو آيةٌ من آيات الله الكونية التي تحمل حِكمًا عظيمة، فهذا التغيير الإلهي في المناخ يُعَلِّمُ الإنسانَ التكيف مع الظروف المختلفة، ويساعد على تجديد الطبيعة ويحافظ على توازنها.. ويتيح الفرصة لتكاثر النباتات، وتنوع المحاصيل، ويساهم في تنشيط الصحة الجسدية والعقلية للإنسان، فيكسر الروتين اليومي ويشعره ببداية جديدة متدرجة؛ فينعكس إيجابًا على مزاجه ونشاطه البدني فيشعر بالأمل والتفاؤل.. وقبل ذلك كله فإن تعاقب الفصول المنتظم والدقيق يُظهر عظمة الخالق -سُبْحَانَهُ- وقدرته..

أيها الإخوة: وها هو الشتاء يحل بنا بليله الطويل ونهاره القصير، وببرده الذي يكون قارسًا أحيانًا.. وفي ثنايا صفات الشتاء خير عظيم لمن وفقه الله لاستثماره..

أيها الأحبة: روي أحمد البيهقي في سننه واللفظ له عَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ، قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ، وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ». وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، وحَسَّن إسناده [بعضهم]. وضعفه آخرون لكنه صحيح المعنى..

ذلك أن المؤمن في الشتاء يسرح في ميادين العبادة، ويرتع في بساتين الطاعة، ويُنزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة.. فالمؤمن في الشتاء يستطيع الصيام بلا مشقة ولا كلفة من جوع أو عطش.. لقصر نهار الشتاء وبرودته، لذلك عد رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- «الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ» رواه البيهقي في شعب الإيمان عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- وحسنه الألباني. أي غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب كثير ولا مشقة.. فمن صام حاز أجر الصيام عفوًا صفوًا بلا كلفة..

أحبتي: بالصيام أوصى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أَبَا أُمَامَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- لما أَتَى إِلَيْهِ وَقَالَ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ آخُذُهُ عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ» وفي رواية «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عَدْلَ لَهُ». رواه أحمد والنسائي. صححه الألباني وغيره.. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. أي سبعين سنة، في طاعة الله إذا قصد به وجهه -تَعَالَى-

أيها الإخوة. والشتاء لطول ليله فرصة لقيام الليل، فالنفس تأخذ حظها من النوم.. وبعده يمكن أن يقوم.. قال الحسن: ‌نِعْمَ ‌زمانُ ‌المؤمنِ ‌الشتاءُ، ليلُهُ طويل يقومُه، ونهارُه قصيرٌ يصومُهُ.. وقيام ليل الشتاء شاق على بعض النفوس لتألمها أشد الألم للقيام من الفراش في شدة البرد.. وربما ترك بعضهم صلاة الفجر في جماعة لضعفه عن مجاهدة نفسه، نسأل الله أن يعننا وإياهم على أنفسنا.. ثم ما يحصل للقائم من الألم بسبب إسباغ الوضوء في شدة البرد مع أنه سبب في رفع الدرجات ومحو السيئات قَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.. قال ابن رجب: معالجة الوضوء في جوف الليل للتهجد موجب لرضا الرب، ومباهاة الملائكة، ففي شدة البرد يتأكد ذلك، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ يُعَالِجُ نَفْسَهُ إِلَى الطَّهُورِ، وَعَلَيْكُمْ عُقَدٌ، فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِذَا وَضَّأَ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِلَّذِين وَرَاءَ الْحِجَابِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُعَالِجُ نَفْسَهُ لَيَسْأَلَنِي، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ». رواه ابن حبان عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني.

أيها الإخوة: قيام الليل مزارع للآخرة يشتري العبد بها رحمة الله في ركعة أو سجدة أو في تسبيحة أو استغفار.. ما أجمل القيام في ثلث الليل الآخر.. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ.؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ.؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ.؟" متفق عليه. واه.. ثم واه من الكسل.. الله -جَلَّ جَلَالُهُ- الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروضِ الربانية الضخمة، والدعوةِ الكريمة السامية المتوددة.؟! لما لا نستثمرها ما دام لنا في ليل الشتاء فسحة.؟! لما نغفل عنها ونحن المحتاجون الضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه.. ونمرغ أنوفنا بين يديه.. وننيخ مطايانا ببابه؟! فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه.؟!.

أيها الأحبة: ما أجمل ليل الشتاء الطويل إذا سكن الناس ونامت عيونهم وغطوا في سباتهم فإذا برجلٍ أو امرأةٍ موفقين ينسل أحدهما من تحت دفء غطائه، ذاكرًا الله طالبًا ما عنده من الخير.. فيقوم لصلاة الليل، ويوقظ أحدهما زوجه ليصليا جماعة أو فرادى.. متطلعين لرحمة الله فقد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» رواه النسائي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وقال الألباني حسن صحيح. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ». رواه أبو داود وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني 

أحبتي: وفي الشتاء يطول الليل ويبرد فيستيقظ كثير من الناس فيه لحاجتهم وهنا تسنح للمسلم فرصة ذهبية وتلوح له منحة ربانية.. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-:  «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ (يعني استيقظ) فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ» رواه البخاري وغيره فعن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. قال أحدهم:

وكم من شدةٍ في الليل ضاقت.... وجاء الصبحُ في أبهى انفراجه

فكيف ينام في الأســـحار عبدٌ.... له في النفــــــــس عند اللهِ حاجة

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم....

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليمًا كثيرا. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]

ثم أما بعد أيها الإخوة: لقد شرع الله لنا دفع أذى البرد بما امتن به علينا من اللباس ووسائل التدفئة المختلفة. قال الله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النحل:5] والدفء مما تتخذون من أصوافها وأوبارها، وأشعارها، وجلودها، من الثياب والفرش والبيوت.. قال: سُلَيْمِ بن عامِرٍ: كانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ الله عَنْهُ- إذا حَضَرَ الشِّتاءُ تَعاهَدَ رَعِيَتَهُ وَكَتَبَ لِلِوُلَاةِ بالوصيَّةِ: إنَّ الشِّتاءَ قد حَضَرَ، وهوَ عدوٌّ، فتَأَهَّبوا لهُ أُهْبَتَهُ مِن الصُّوفِ والخفافِ والجواربِ، واتَّخِذوا الصُّوفَ شِعَارًا ودثارًا [الشعار ما يلي البدن، والدثار الملابس الخارجية] فإنَّ البردَ عدوٌّ، سريعٌ دخولُهُ، بعيدٌ خروجُهُ.. رَوَاهُ ابنُ المُبارَكِ وهذا منه -رَضِيَ الله عَنْهُ- لتمام نصيحته وبعد نظره وشفقته على رعيته.. وبعد إخوتي: فترة الشتاء فترة مناسبة للتدرب على قيام الليل، فقد ذكر أكثر علماء السلوك أن الإنسان يحتاج إلى واحد وعشرين يومًا على الأقل ليبني في نفسه عادة جديدة.. ومنهم من قال: يحتاج إلى أكثر وقد يصل إلى ست وستين يومًا، ومما يؤثر على سرعة اكتساب العادة أو السلوك الرغبة والقناعة في اعتياده.. جعلني الله وإياكم ممن يوفق لذلك إنه جواد كريم بر رحيم.. وصلى الله على نبينا محمد.

المشاهدات 131 | التعليقات 0